مما كان أهل الحرم والعرب قاطبة يتحنثون به -وهي من مكارمهم التي أقرها الإسلام- تعظيم البيت الحرام، وما يتعلق به من مناسك، اتباعاً لدين أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، واحترام الوظائف المرتبطة به كالحجابة والرفادة والسقاية، وتعظيم شعائر الحج ومشاعره، قال تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32).
ومن طريف ما يروى أن الصحابية أمّ هانئ بنت أبي طالب (بنت عم النبي صـلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها؛ كان عندها في بيتها كمية كبيرة من الحجارة التي رمت بها الطير الأبابيل على أصحاب الفيل، وأنها كانت سوداء مخطّطة بخطوط حمر على قدر بعر الغنم، كأنّها جزع ظفار. ولا ريب أن هذه المرأة الهاشمية تحتفظ بهذه الحجارة فخراً بهذا البيت الذي حماه الله من العدوان، نقول ذلك ونحن نستحضر موقف جدها عبدالمطلب شيخ مكة الجليل من هذا الغزو الغاشم.
في عصر قريش نظم السيد قصي بن كلاب الجد الأعلى للنبي صلى الله عليه وسلـم وظائف البيت الحرام، وجمعها في يده، وهي: الحجابة والرفادة والسقاية واللواء ودار الندوة، ثم أوصى لابنه الأكبر عبدالدار بالحجابة، وصار بنو عبدالدار لهم شرف خدمة الكعبة المعظمة من عمارة وصيانة وكسوة وتطييب وفتح بابها. وفي عام 40 بعد تولي شيبة بن عثمان الحجابة خلفاً لابن عمه عثمان بن طلحة، انحصرت وظيفة الحجابة في يد ذريته بني شيبة إلى وقتنا الحاضر.
ونظير ما كان للكعبة من تعظيم ومكانة؛ نال هذه القدسية كل ما يهدى للكعبة من مال وكسوة وتحف، وبالتالي صار هذا هو مالها الذي يحرم عليهم وعلى غيرهم المساس والاعتزاز به. وقد أوجب تراكم الإهداءات للكعبة عبر القرون على السدنة تدبير وسائل حفظها، خصوصاً أنها من كرائم الأموال والمعادن النفيسة، فهي غالية الثمن، كما أن إهداءها للكعبة زاد من قيمتها المعنوية بالقدسية التي تتطلب ضمان عدم التعدي عليها وسرقتها، ولذا خصصوا في بيت السادن جناحاً سموه (خزانة الكعبة)، وقد تواترت المصادر على ذكرها وتعداد موجوداتها.
وكان للخزانة سلف قديم جداً، فقد ذكر الإخباريون أن أمانات الكعبة كانت توضع في بير عميقة في جوف الكعبة، وأن الذي أحدثها نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والجدير بالذكر أن الكعبة -آنذاك- لم يكن لها سقف وليس لها باب يغلق، ولذا توجب حفظ أماناتها في تلك البير، والتي أطلق عليها (معاليق الكعبة)، أو كنز الكعبة.
والمصادر تمدنا بعمل منظم لحفظ تلك الأمانات الخاصة بالكعبة، ومن خلال قراءة النصوص تبين أن تلك الأمانات كانت توضع في مكانين: الأول في (جوف الكعبة) وهو الأقدم، والثاني توضع في (خزانة الكعبة) ومقرها في بيت السادن. والموضع الثاني هو الذي يتناوله هذا المقال. ومع ذلك فهناك تداخل في وظيفة المكانيين لتزامن وجودهما حسب مرويات المؤرخين، وهذا يرد ما ذهب إليه الأستاذ محمد طاهر الكردي بأن خزانة الكعبة استحدثت بديلاً للبير التي في جوف الكعبة بعد عمارة عبدالله بن الزبير عام 64هـ للكعبة، حيث طمرت البئر، ونقل ما في جوف الكعبة إلى خزانة الكعبة في بيت السدنة. وقد يكون كلام الأستاذ صحيحاً، فيما يتعلق بطمر تلك البئر، ولكنه غير صحيح في أن معاليق الكعبة انقطعت من جوفها بدليل الشواهد التاريخية التي تؤكد استمرار توافد الهدايا للكعبة وحفظها في جوفها عبر القرون الماضية، وهو بنفسه ساق تلك الشواهد في مواضع عدة من كتابه التاريخ القويم. ومع ذلك ينبغي هنا التنبيه إلى أن بعض السياقات التاريخية تخلط بين ما في جوف الكعبة وتسميه خزانة الكعبة، وبين خزانة الكعبة التي كان يحفظ فيها الأمانات في بيت السادن.
بيد أن خزانة الكعبة بدأت أخبارها بالظهور في عصر قريش المتأخر قبيل الإسلام. فقد ذكر الأزرقي أن السادن عثمان بن طلحة كان يضع ما فضل من كسوة الكعبة ومما يهدى إليها في خزانة الكعبة في منزله الذي كان بجوار دار الندوة. وكانت هذه الدار لجده عبدالله بن عبدالعزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب.
وهنا تأتي حادثة فتح مكة (عام 8هـ) عندما طلب النبي صلى الله عليه وسلـم مفتاح الكعبة من السادن (عثمان بن طلحة)، وكان المفتاح في بيته، وفي يد أمه سلافة بنت سعد الأنصارية، وكانت ضنينة به جداً. فجاء به ثم قبضه النبي صـلى الله عليه وسلم، ودخل الكعبة، ولما خرج منها أرجعه إليه، ثم قال له (غيبه) أي المفتاح، وبهذا استمر حفظه كما كان في بيت السادن.
وكانت العادة أن السدنة يتكرمون بقطع من كسوة الكعبة على الأكابر والحجاج، لكن السادن شيبة بن عثمان توقف عن توزيعها، وبدأ بحفظ ما نزع من أستار الكعبة في خزانة الكعبة تكريماً لها من الإهانة، إذا استخدمها الناس أو لبسوها، فاستفتى عائشة رضي الله عنها فيما يصنع بالكسوة القديمة فقالت له: إن ثياب الكعبة إذا نزعت لا يضرها من لبسها من حائض أو جنب، ولكن بعها واجعل ثمنها في سبيل الله تعالى. واستفتى كذلك ابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهما وأجابا بنفس جواب أم المؤمنين.
وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما وسع المسجد الحرام بهدم البيوت المحيطة به رفض بعض الملاك البيع وقبض الثمن، فأودع أموالهم أمانة في خزانة الكعبة في عهدة السادن إلى حين استلامهم لها.
وعندما أراد الخليفة عبدالله بن الزبير رضي الله عنه تجديد بناء الكعبة بعد احتراقها، نزع الحجر الأسود من مكانه، وغلفه بمنديل حرير، وأغلق عليه في تابوت، ووضعه في دار الندوة، بينما ينتهي البناء، أما ما في جوف الكعبة من الأمانات (ثياب وطيب وحلي) فنقلها إلى خزانة الكعبة في بيت السادن. ومما يستملح ذكره بمناسبة احتراق الكعبة في عهد ابن الزبير هذه الرواية: أن أم الصحابي عبدالله عامر بن كريز زارت صفية بنت شيبة (ابنة السادن)، فأرادت صفية أن تكرمها بشيء نفيس، فأخرجت كسرة حصاة انشطرت من الحجر الأسود عندما احترقت الكعبة فجعلتها في حق (علبة)، فقدمتها هدية لها.
ومما كان يحفظ في خزانة الكعبة الوثائق المكتوبة، فقد حفظ فيها عمر بن عبدالعزيز الأموي وهو أمير للحج قبل خلافته وثيقة وقف الدار التي بناها بمكة، حيث تصدق بها على الحجاج والمعتمرين، وكتب بذلك كتاباً وأشهد عليه، وأودعه في خزانة الكعبة في عهدة الحجبة، وجعل لهم النظر في هذا الوقف وإدارته.
كما كان للكعبة مال نقدي قديم مما يهدى إليها محفوظ في جوفها قبل الفتح (8هـ)، وكانت العرب تسميه (الأبرق)، قيل إنه بلغ 70 ألف أوقية من الذهب. ولكن النبي صـلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون تورعوا عن أخذه والاستعانة به في المصالح العامة. وبقي هذا المال بعينه محفوظاً في خزانة الكعبة حتى عام 188هـ، حسب رواية الأزرقي بسنده عن أحد الحجبة. وفي عام 200هـ أصبح هذا الذهب مطمعاً للثوار الطالبيين الذي سيطروا على مكة في حينها، وأخذوه عنوة ولم يرجعوه، فرفع السدنة أمره إلى الخليفة المأمون فعوضهم عنه بـ5000 دينار ذهب، ثم ردوه إلى خزانة الكعبة. وجرت حادثة مشابهة في عام 384هـ عندما استقل الحسن بن جعفر الطالبي بولاية مكة عن الفاطميين، فسطا على ما للكعبة من زينة الذهب والفضة وما في خزانتها وسكه نقوداً.
وعندما أسلم ملك التبت عام 201هـ أرسل إلى الخليفة المأمون هدية ثمينة للكعبة مكونة من: صنم من ذهب -كان يعبده- على سرير من فضة، وفرشه من ديباج، ومع تلك الهدية صك إسلامه مكتوب على لوح من فضة، فأرسله المأمون مع الهدية إلى مكة في الموسم وعرضه أمير الحج بين الصفا والمروة ليراه الناس، ورجل واقف بجواره يترجم لهم ما في اللوح. قال الأزرقي: ثم دفعه أمير الحج إلى الحجبة، وأشهد عليهم بقبضه، فجعلوه في خزانة الكعبة في دار السادن. وبعد عام واحد أخذه أمير مكة العباسي من السادن وضربه دنانير ودراهم ليستعين به على حرب الثوار الذي احتلوا مكة.
وفي عهد الخليفة العباسي المتوكل، عام 240هـ استخرج واليه على مكة المكرمة ثياب قباطي من خزانة الكعبة في بيت السادن وألبسها الكعبة المعظمة.
بعد سوق الشواهد التاريخية الآنفة الدالة على وجود ووظيفة خزانة الكعبة، نلاحظ أنه منذ أواخر القرن الرابع الهجري تختفي أخبارها من مصادرنا التاريخية، ولا نعلم هل أهمل المؤرخون ذكرها، أم أستحدث لوظيفتها تنظيم آخر. ولكن في العهد العثماني عندما تصدعت الكعبة المشرفة عام 1039هـ جراء السيول هرع أهل الحرم لنقل ما في جوف الكعبة من أمانات ثمينة إلى بيت السادن قرب الصفا بحضور قاضي مكة وشريفها، ووضعوها في خزانة وختموها وأشهدوا عليها، ثم أعيدت بعد إتمام بناء الكعبة من جديد. وهذه الحادثة تفيدنا أن الخزانة السابقة لا وجود لها بدليل أن نقل أمانات الكعبة لبيت السادن تم بحضور القاضي والشريف وتم الختم عليها بختم القاضي، مما يدل على وجود نظام صارم لحفظ تلك الأمانات بإشراف السلطة القائمة، ولم يترك للسادن الانفراد بهذه المهمة.
متحف الحرمين الشريفين
كانت الأمانات المتعلقة بالحرمين الشريفين ومشاعر الحج في الحفظ والصون، حتى رأت الرئاسة العامة لشؤون الحرمين -مشكورة- في عام 1420هـ / 1999م، أن تعرضها لأنظار الزوار، وذلك بافتتاح متحف الحرمين الشريفين بمكة المكرمة بهدف حفظ ذلك التراث المادي والمعنوي التليد للحرمين الشريفين ومشاعر الحج، وما يتصل بهما من مناسك. ويتكون المتحف من سبع قاعات كل قاعة مخصصة لغرض محدد. وأقدم معروضات المتحف عمود خشبي يسند سقف الكعبة من بقايا عمارة عبدالله بن الزبير عام 64هـ، والعديد من نوادر التحف التي استخرجت من الحرمين الشريفين نتيجة تجديد عمارتها وتنظيمها عبر القرون.
مراجع
1 - تفسير سورة الفيل، تفسير الحداد، 6 / 563 (المكتبة الشاملة)
2 - أخبار مكة، محمد الأزرقي، تحقيق رشدي ملحس، 1398هـ : 1 / 244
3 - التاريخ القويم، محمد طاهر الكردي، ط 1385هـ 4 / 132
4 - أخبار مكة، محمد الفاكهي، 3 / 291 (المكتبة الشاملة)
5 - العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، محمد الفاسي، 3 / 339 (المكتبة الشاملة)