مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

مكة.. الدعوة المستجابة

يعيش المسلمون في هذه الأيام مناسبة عزيزة عليهم جميعاً، تهفو إليها قلوبهم، وتهوي إليها أفئدتهم، وهي مناسبة الحج إلى بيت الله الحرام، والذهاب إلى مكة، تلك البلدة صاحبة القصة العجيبة، والتي كانت كما وصفها القرآن الكريم (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)؛ صحراء جرداء لا حياة فيها، لنبات ولا لإنسان. ولكن إرادة الله سبحانه وتعالى جعلت من هذا المكان الموحش خير بقعة على وجه الأرض، فجعلت منها القبلة التي يؤمها المسلمون في أرجاء المعمورة، والحرم الآمن الذي لا يقع فيه مأثم ولا يدور فيه قتال، بل يأمن فيه الخائف على نفسه، ويتحامى فيه الناس من الظلم، تلك الحرمات التي عبرت عنها أم لابنها وهي تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغي فيها:
ابني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها ولا يغرنك الغرور
ابني من يظلم بمكة يلقَ فيها أصناف الشرور
الله آمنها وآمن طيرها وما بنيت بعرصتها قصور

وكان التكريم الأكبر الذي أراده الله لهذا البلد أن جعله وطناً ومولداً لخير مولود على وجه الأرض، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. فقد كانت مكة هي أحب البلاد إلى الله وإلى رسوله، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله إنك لأحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إليّ، ولو أن قومي أخرجوني منك ما خرجت).
مكة البلد الأمين
هذه مقدمة موجزة عن مكة، بينما كانت عليه من الفقر والحرمان وشظف العيش؛ إلى ما صارت عليه من كونها خير بقعة على وجه الأرض. وبينما كانت عليه وإلى ما صارت عليه؛ قصة عجيبة، تلك هي قصة إبراهيم مع ولده إسماعيل وزوجتيه: هاجر وسارة. نقصها الآن لا للتسلية؛ لأن قصص القرآن يأخذ منها المسلم العبرة والعظة، وما يناسب حياته، ويعالج مشكلاته الراهنة.
لقد تزوج إبراهيم عليه السلام بالسيدة سارة، وعاش معها بضعاً وثمانين سنة، لم يرزق خلال هذه العشرة الطويلة بمولود، والإنسان بطبعه يرغب في ألا ينقطع أثره من الدنيا، وإنما يتمنى أن يكون له ولد يخلد ذكره واسمه، ومن هنا تمنى إبراهيم أن يكون له ولد، كما ذكر القرآن الكريم: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)(الصافات 99- 100)، واستجاب الله دعاءه فوضع الحنان في قلب زوجته سارة، فوهبت له جارية تسمى (هاجر)، وقالت له: لقد حرمت من الولد، فعسى الله أن يرزقك منها بغلام تقر به عينك، وتزوجها إبراهيم فحملت منه، وولدت له (إسماعيل). وعندئذ يرى المؤرخون أن سارة قد أخذتها الغيرة، فطلبت منه أن يأخذ إسماعيل وهاجر إلى مكان بعيد لا زرع فيه ولا ماء، وتردد إبراهيم في الأمر ثم نفذ في النهاية.
هذا ما يقوله المؤرخون، عن تحديد سبب وضع إسماعيل وهاجر في هذا المكان الموحش؛ ولكن الحقيقة أن سارة هي زوجة خليل الله إبراهيم، ومكانتها ومنزلتها تأبى أن تطلب من إبراهيم أن يضع أماً وطفلها في مكان مهجور لا حياة فيه؛ لأن معنى ذلك أنها تطلب منه أن يقتلهم شر قتلة. ولكن تكريم الله للسيدة سارة في القرآن الكريم، حيث كافأها وبشرها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب؛ أقول إن هذا التكريم يدل على مكانتها، وهي مكانة تأبى عليها أن تطلب مثل هذا الطلب من إبراهيم.
والذي نراه في المسألة كلها أنها كانت ترتيباً إلهياً ووحياً منه إلى إبراهيم، فقد أراد االله أن يحول هذا المكان القفر إلى أفضل بقعة على وجه الأرض، فأمر إبراهيم أن يسكن ابنه إسماعيل وزوجته هاجر عند البيت لحرام، لكي يطهّر هذا المكان للطائفين والعاكفين، ولكي يكون من ذريته خير مولود على وجه الأرض، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وامتثل إبراهيم لأمر مولاه، فأخذ الطفل الرضيع وأمه سارة حتى وصل إلى هذا المكان الذي انعدمت فيه أسباب الحياة، ولكنه ظل فوق راحلته، ولما همّ بالرحيل، تعجبت هاجر كيف يتركها وطفلها في هذا المكان، ولكنها استسلمت لحكم الله ولم تجزع، وإنما سألته سؤالاً واحداً لا يدل إلا على إيمان عميق، وتسليم لقضاء الله وقدره، قالت له وهو راجع عنها: إلى أين يا إبراهيم؟
دعوة إبراهيم باقية إلى أبد الآبدين
وإبراهيم عليه السلام يستمر في عودته، ولا يلتفت إليها، وكأنما قد غلب الحنان على قلبه، فأدمعت عيناه، فلم يرد أن تبصره أم إسماعيل، حتى كان على مرمى السمع منها، فسألته السؤال الأخير: آلله أمرك بهذا؟ فأشار إليها أي نعم، فقالت له: إذن لن يضيعنا الله.
وانصرف إبراهيم عليه السلام، وقد ترك طفله الصغير الذي لم يره إلا بعد أن بلغ من الكبر عتياً. ولكنه أمام أمر المولى لا يملك إلا التسليم، ولا يملك إلا تنفيذ الأمر حتى ولو كان فيه هلاك قرة عينه وفلذة كبده.
ويعود إبراهيم بعد أن نفذ أمر ربه، ويغلب الحنان على قلبه فيلجأ إلى الله بالدعاء: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم 37). وأما هاجر، تلك التي نفذت أمر زوجها حتى ولو كان فيه هلاكها؛ فقد أقامت عريشاً أوت إليه هي وابنها، ونفد كل ما كان معها من الماء والزاد، واشتد بهما الظمأ، وصرخ الطفل الصغير من الجوع، ولكنها لا تملك شيئاً إلا الدعاء إلى الله الذي أيقنت تماماً بأنه لا يضيعها، وقامت تجري في الصحراء يميناً ويساراً لعلها تجد عيناً أو ينبوعاً فيه ماء، وجرت سبعة أشواط بين جبلي الصفا والمروة، علها تجد عيناً أو ينبوعاً فيه ماء، وفي المرة السابعة جاءت إلى الطفل، فوجدت أن الماء قد نبع من تحت قدميه، فشربت هي وطفلها، وهكذا توكلت على الله، وأيقنت أنه لا يضيعها، وإنما أخرج لها الماء مكافأة على إيمانها وطاعتها، واستجابة لنداء هذا النبي الذي امتثل لأمر ربه، وأتم الله استجابة دعاء إبراهيم، فجعل قلوب الناس تهوي إلى هذا المكان، فقد كان هناك جماعة من العرب يسيرون في الصحراء، فوجدوا الطيور حول هذا المكان، فقالوا: إن الطيور لا تحوم إلا على مكان فيه ماء، فذهبوا إلى هناك، ودهشوا حينما رؤوا هاجر وطفلها، فسألوها عن أمرها، فقصت عليهم قصتها، فقالوا لبعضهم لولا أن الله أحب هذين ما أكرمهما بهذا الماء، وسألوها عن الإقامة معها، على أن يشاطروها أموالهم، وأن يجعلوا إسماعيل رئيساً عليهم عند بلوغه، فقبلت هاجر، وسمحت لهم بالإقامة، فبنوا حولها مساكنهم، فكانت تلك البقعة هي مكة المكرمة.
وبعد أن كبر إسماعيل، أمره الله هو وإبراهيم ببناء البيت الحرام، ولما أتما بناء البيت أمر الله إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج إلى هذا البيت الحرام. قال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، (الحج 27)، وتعجب إبراهيم كيف ينادي في هذه الصحراء؟ فقال يا رب أنادي، من يستجيب؟ فقال الله تعالى: (يا إبراهيم عليك البلاغ وعلينا الإسماع)، فوقف إبراهيم فوق جبل أبي قبيس نادى: أيها الناس إن الله بنى لكم بيتاً فحجوه، فأجابت الأرواح في عالم الغيب أن: لبيك اللهم لبيك.
وها هي الأجساد تلبي نداء الأرواح، فيذهب المسلمون في كل عام إلى زيارة بيت الله الحرام، تلبية لنداء سيدنا إبراهيم: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، وهكذا استجاب الله نداء إبراهيم، فجعل مكة حرماً آمناً، يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً، وجعل أفئدة المسلمين في بقاع الأرض تهوي إلى هذا المكان.
عبر وعظات
إذا نظرنا إلى قصة إبراهيم مع ولده إسماعيل وزوجتيه هاجر وسارة؛ نستطيع أن نأخذ كثيراً من العبر والعظات التي يحتاجها المسلم في حياته الراهنة.
فهذا خليل الله إبراهيم يمتحنه المولى بعدم الإنجاب، فيصبر على هذا الامتحان حتى يبلغ من العمر ستاً وثمانين سنة، وحينئذ تكون المكافأة من الله فيرزقه بغلامين، الغلام الحليم وهو إسماعيل ابن هاجر، والغلام العليم وهو أسحاق ابن سارة. وبعد ذلك يضعه المولى في امتحان أشد قسوة من الامتحان الأول، حيث يأمره أن يضع طفله وزوجته في مكان قفر لا يتوقع فيه إلا الهلاك المحقق لطفله الذي لم يره إلا بعد أن بلغ من الكبر عتياً، ولكنه أمام أمر ربه لا يملك إلا التسليم والتنفيذ، ولما نفذ إبراهيم أمر الله استجاب الله دعاءه، وأخرج للطفل الرضيع من بين الجبلين سلسالاً شهياً وهو بئر زمزم، ما حوّل هذا المكان الموحش إلى خير بقعة على وجه الأرض.
وأما عن هاجر فقد كانت مثلاً أعلى للزوجة الصالحة المطيعة، وما أحوج الناس في هذا العصر إليها، يأمرها زوجها بأن تبقى في هذا المكان القاتل، وهي تعلم تماماً أن فيه حتفها هي وطفلها، ومع ذلك لم تعترض على زوجها، ولم تقل كلمة تغضبه، وإنما سألته سؤالاً واحداً عن مصدر هذا الأمر، فلما قال لها: الله أمرني بهذا، قالت: إذن لن يضيعنا الله. فلم يضيعها المولى سبحانه وتعالى. وكان في طاعتها لأمر زوجها حياة لها، ففجر الله لهما بئر زمزم، بل أصبحت هاجر سيدة للقوم الذين وفدوا عليها. وهكذا يجب أن تكون المرأة المسلمة في هذا العصر، مطيعة لأمر زوجها، تلك الطاعة التي جعلها الله بمثابة الجهاد في سبيل الله.
وعبرة أخرى نأخذها من موقف هاجر: حين قامت تجري في الصحراء بحثاً عن ماء أو طعام لها ولطفلها، فهي مع أنها تعلم يقيناً أنها في صحراء جرداء؛ إلا أنها قامت تسعى لعل الله يرزقها، ومن هنا يجب أن نعلم أنه يجب على المسلم، مع إيمانه بأن الله هو الرزاق، وهو الممد بالعون والقوة؛ أن يسعى لطلب رزقه. فهاجر مع إيمانها بأن الله لن يضيعها، لم تجلس في عرشها تنتظر أن تمطر لها السماء طعاماً وشراباً، وإنما سعت في الصحراء لعلها تجد شيئاً.
أما عن سارة، تلك الزوجة الصالحة التي دفعها حبها لزوجها أن تطلب منه أن يتزوج بغيرها، لعل الله يرزقه ولداً تقر به عينه، وتهدأ به نفسه؛ أما عن هذه الزوجة الكريمة فقد كانت مثالاً طيباً للزوجة الشاكرة الصابرة، ومن هنا كافأها الله مكافأة لم يكافئ بها أحداً من قبل ولا من بعد، فلقد بشرها بولد وحفيد مرة واحدة، ومع أنه بشّر إبراهيم بغلام حليم وغلام عليم، وبشر زكريا بيحيى وبشر مريم بعيسى؛ إلا أنه بشّر سارة بعد عقمها الطويل بولد وحفيد، وباسميهما: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ). ومع أنها قد قاربت التسعين من عمرها إلا أن قدرة الله لا يعجزها شيء. ألَا ما أحوج المسلمين في هذا العصر إلى مثل هذه الزوجة الصالحة المباركة، وما أحوج المسلمات إلى أن يأخذن المثل في الطاعة والصبر من زوجات سيدنا إبراهيم عليه السلام: السيدة هاجر أم إسماعيل جد النبي عليه السلام، والسيدة سارة التي كافأها المولى على صبرها وحسن معاشرتها لسيدنا إبراهيم عليه السلام.

ذو صلة