ولأني بطبعي أميل إلى العزلة أكثر من المخالطة، فقد أخذت ركناً قصياً من هذا العالم لوقتٍ غير قصير، مكتفيةً بالصمت وتأمل حال الكون المستعر شراً وحروباً وجنوناً.
لم أعد أشعر برغبةٍ جارفةٍ كالسابق في التنافس على أي شيء أحبه، أو السعي لما تتوق إليه نفسي، لقد أدرت ظهري للحياة واكتفيت بذلك.
وكما أن الكتابة متنفس لنا نحن هواة الكتابة، فإنها في المقابل تكون طريقةً لتعريتنا أمام الآخرين، فيظهرون من خلالها على دموعٍ كنا قد سكبناها خلسةً، ويكتشفون هزائم قد تلقيناها في الخفاء، بينما نظهر أمامهم ونحن واقفون بشموخٍ وثباتٍ يوحيان بأننا المنتصرون دون أدنى شك، وهم سيعرفون حكايات من الخيبات والخذلان والظلم والمعاناة طالما أخفيناها سراً عنهم.
لهذا ألقيت لبعض الوقت بأقلامي جانباً، وصرت أقطع الوقت في مشاهدة ما يغص به هاتفي من مقاطع وحكايات وأشعارٍ زادتني يقيناً بأن كوكبنا لم يعد يصلح للعيش فيه، وأن من تحت التراب هم أوفر حظاً ممن هم فوقه، وأن الطيبين أشخاص بؤساء لا يستطيعون نفع أنفسهم فضلاً عن غيرهم.
كل هذا ملأني بالإحباط، حتى غزت الكآبة جوانب روحي، وفقدت الشغف تجاه كل الأشياء التي طالما شغفتني حباً، فقررت الإيغال في عزلتي إلا للضرورة، وأدرت ظهري للحياة ولمن فيها دون أي شعورٍ بالأسف، وصار حنيني وتوقي، هو إلى لقاء أحبتي الراحلين عن دنيانا.
ولما طال بي الوقت وأنا على هذه الحالة، علمت صعوبة الاستمرار على ما أنا فيه.
وتذكرت البيت الشعري الشهير في أدبنا العربي:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
فالحياة ماضيةٌ بنا وبدوننا، وهي تفتح ذراعيها لمن يقبل عليها، وتعطي من يجتهد فيها بإذن ربها، ورغم قبح وجهها أحياناً كثيرةً إلا أنها أحياناً أخرى تفاجئنا بوجهٍ بهيٍ باسمٍ لطيف، يغرينا للعودة إلى الركض في ميادينها الواسعة مجدداً، وتحيي فينا آمالاً كنا على وشك التخلي عنها للأبد، وتستفزنا تارةً أخرى للتشمير عن سواعدنا للعمل على استعادة شغفنا الذي فقدناه في لحظة تعبٍ منها وإعراضٍٍ عنها، لنستوعب في النهاية بأننا جنودٌ في معركةٍ الحياة المفروضة قدراً علينا، وأن الخيارات المتاحة أمامنا محدودةٌ فإما الاستمرار والنصر، أو التوقف والهزيمة، وصدقوني أن الهزيمة في معركة الحياة لا تشبهها أية هزيمة أخرى، ومرارتها لا مثيل لها، ولن تطيقها نفوسنا البشرية الضعيفة، وأن نظل نركض في ميادينها بشموخٍ رغم التعب والألم والمرارة التي قد نشعر بها، خيرٌ وأكرم لنا من السقوط تحت أقدام الساعين في تلك الميادين والمقاتلين فيها بقوةٍ وعنفوان.