لم تعد مُتطلبات (محو الأمية)، أو لعلنا نقول احتياجات (الأهلية المعرفية Literacy)، في هذا العصر، تقتصر على القراءة والكتابة، وعلى الإلمام بشؤون الحساب، بل باتت عالماً من المعرفة يزداد اتساعاً مع التطور العلمي والتقني، وما يشهده من إبداع وابتكار، وما يُقدمه من أدوات تُفيد الجميع في أعمالهم المهنية ونشاطاتهم الاجتماعية وتطلعاتهم الشخصية. وعلى الجميع، استجابة لذلك، التزود بالمعرفة اللازمة للتعامل مع هذه المُعطيات والأدوات، والسعي إلى الاستفادة منها، والانتماء في ذلك إلى هذا العصر المعرفي المُتجدد الذي نعيش فيه.
يُعتبر الذكاء الاصطناعي، بما يُقدمه من مُبتكرات وأدوات ذكية مُتجددة، وغير مسبوقة، يُمكن للجميع الاستفادة منها، من أبرز موضوعات العصر في الوقت الحاضر، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق. وقد بات، بلا شك، يحتاج إلى أهلية معرفية جديدة، بل ومُتجددة أيضاً، ليس فقط على مستوى الناشئة في التعليم العام، أو مستوى طلبة التعليم العالي، بل من أجل جميع الناس، على مُختلف مستويات تأهيلهم في المجالات المُختلفة، دون استثناء.
ولعل من أبرز ما تم طرحه فكرياً في مجال الأهلية المعرفية المطلوبة للجميع في مجال الذكاء الاصطناعي، بحث صادر، عام 2020، عن الباحثين (لونج، وماجيركو Long & Magerco) العاملين في (المعهد التقني لولاية جورجيا الأمريكية GIT)، فقد نال هذا البحث اهتماماً عالمياً، تمثل في استشهادات علمية عديدة، وحوارات على نطاق واسع.
يقول البحث في تعريفه للأهلية المطلوبة للذكاء الاصطناعي «إنها مجموعة من الكفاءات اللازمة لتمكين الإنسان من التقييم النقدي لتقنيات الذكاء الاصطناعي، والتواصل مع معطياتها، واستخدامها والاستفادة منها كوسائل مُفيدة على كُل من المستويين الشخصي والمهني». ويُلاحظ أن هذا التعريف، على الرغم من خصوصيته المُرتبطة بالذكاء الاصطناعي، يتمتع أيضاً بالعمومية العلمية. فإذا استبدلنا تقنية الذكاء الاصطناعي، في هذا التعريف، بأي تقنية مُتجددة أخرى من تقنيات هذا العصر، يبقى مضمونه صالحاً فيما يخص التقنية المقصودة.
لا يكتفي البحث المذكور بالطبع بهذا التعريف، بل يُحدد (17) كفاءة للأهلية المطلوبة للذكاء الاصطناعي. وتتسم هذه الكفاءات بطبيعة مُتكاملة، ومُتدرجة، حيث تشمل خمس مراحل رئيسة.
هُناك في المرحلة الأولى ست كفاءات أساسية تتضمن: استيعاب معنى الذكاء عموماً، وفهم تميز الذكاء الاصطناعي وتعددية أشكاله، واستخداماته العامة والخاصة، وتأثيره على مُختلف نواحي الحياة، وعوامل القوة والضعف فيه، فضلاً عن القدرة على تخيل آفاق المُستقبل معه ومع تطبيقاته.
وتبرز، في المرحلة الثانية كفاءتان. تختص الأولى بالتعرف على أساليب تمثيل المعرفة، وهي المادة التي يتعامل الذكاء الاصطناعي معها. أما الثانية فتُركز على قدرة الآلة على استخلاص استنتاجات معرفية مما لديها من بيانات، على أن تكون مُعززة بمُسببات، لتحقق بذلك ما هو معروف، في التفاعل العلمي الموضوعي، بعدم طرح الأمور، إلا بمُرافقة أدلتها.
وتأتي، بعد ما تقدم، المرحلة الثالثة، وتتضمن خمس كفاءات. وتشمل هذه الكفاءات: فهم الخطوات المطلوبة الخاصة بتعلم الآلة، ودور الإنسان في الذكاء الاصطناعي، وإدراك أهمية توفر البيانات لتعلم الآلة، وقدرتها على تمييز معطيات هذه البيانات، فضلاً عن التمكن من التعلم منها.
ونصل إلى المرحلة الرابعة التي تتضمن كفاءتين رئيستين هُما: إدراك قدرة الذكاء الاصطناعي على التفاعل مع البيئة من حوله، بما يشمل شؤون الفعل ورد الفعل، إضافة إلى التعامل مع أجهزة الاستشعار التي تزود الآلة ببيانات مُتجددة تُسهم في توجيه عملها.
وهُناك، في المرحلة الرابعة، أخيراً كفاءتان مهمتان تشمل إحداهما متطلبات تصميم البرامج اللازمة للذكاء الاصطناعي، وتتضمن الثانية شؤون الأخلاقيات المُرتبطة بهذا الذكاء، سواء في تصميمه وتطويره، أو في استخدامه.
تُمثل الكفاءات الـ(17) التي حددها البحث سابق الذكر دليلاً للتعليم العام، المسؤول عن تأهيل الناشئة، يُوجه تحديث مناهجه نحو الاستجابة لمُتطلبات الأهلية المعرفية في مجال الذكاء الاصطناعي. كما تُمثل هذه الكفاءات أيضاً دليلاً لما يجب على دورات (التعلم مدى الحياة LLL) أخذه في الاعتبار لأداء مسؤوليتها تجاه محو أمية الناس في مجال تجدد معطيات العصر، في موضوع الذكاء الاصطناعي المهم الذي يحمل وعوداً كبيرة للمُستقبل، تختلط مشاعر عموم الناس تجاهها بين الإيجابيات والسلبيات. ولا شك أن الأهلية المعرفية في هذا الموضوع تجعل النظرة إليه أكثر عمقاً في الاستجابة لتوقعات مُعطياته، بما يُفعل القدرة على التفاعل مع هذه المُعطيات إيجابياً، والاستفادة منها.
يهتم العالم اليوم بالأهلية المعرفية في إطار كُل من التعليم العام، والتعلم مدى الحياة. ففي التعليم العام قامت دول كثيرة بوضع مُقررات في الذكاء الاصطناعي في مناهج هذا التعليم. وقد أصدرت (منظمة الأمم المُتحدة للتربية والثقافة والعلوم: اليونسكو UNESCO)، تقريراً حول هذا الموضوع، تضمن ما تقوم به بعض الدول في هذا المجال من جهة، وشمل أيضاً توصيفاً لمقررات في الذكاء الاصطناعي، يُقترح تضمينها في مناهج التعليم العام من جهة أخرى.
وفي إطار الاهتمام بالذكاء الاصطناعي في دورات التعلم مدى الحياة، قامت بعض الجامعات بطرح مثل هذه الدورات. ولعل من أبرز هذه الجامعات تلك التي تتمتع بمكانة عالمية مرموقة، مثل جامعة هارفارد الأمريكية، وجامعة أكسفورد البريطانية. وهُناك بالطبع جامعات كثيرة أخرى حول العالم قامت بمثل ذلك، فضلاً عن قيامها أيضاً بوضع مناهج أكاديمية تخصصية في مجال الذكاء الاصطناعي، تقود إلى درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في هذا المجال الحيوي.
وإذا كان هُناك من كلمة أخيرة، فهي أن مسؤولية الأهلية المعرفية في مجال الذكاء الاصطناعي ليست محصورة فقط في التعليم العام، بل إن على الجهات التعليمية المهتمة بالتعلم مدى الحياة، وبينها الجامعات، أن تأخذ دورها في هذه المسؤولية. وتشمل هذه الجهات، إضافة إلى الجامعات، تلك المعنية بالثقافة العلمية، والجوانب الاجتماعية والاقتصادية للتطور العلمي، ومتطلبات مسيرة التنمية وآفاقها المُستقبلية.