مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

(ديستوفسكي) الرواية الحية حتى مطالع الأبد

الأدب وليد المعاناة، ليست قاعدة مطردة في كثير من الأحيان. من الأدباء من عاني شظف العيش، وقساوة الحياة، ومع ذلك تُعبر كتاباته عن نزع أرستقراطي مخملي، ومنهم من نشأ في بيئة مستقرة مالياً ونفسياً واجتماعياً، ولم يدون سوى عن بؤس الإنسان وشقائه.
فيودور ديستوفسكي هو التجسيد الحي لمقولة الأدب وليد المعاناة هذه رغم عدم طارديتها. كانت حياته الشخصية أشد روائية وعجائبية من مؤلفاته نفسها. سلسلة متواصلة من المعاناة والعذابات التي لم تنته وحتى رحيله، خصبت وخضبت كتاباته، ما جعل منه أديب روسيا الأوحد، ولم يستطع أديب روسي آخر احتلال هذه المساحة سواء محلياً أو عالمياً من منتصف القرن التاسع عشر وحتى وقتنا هذا.
تقلبات حياته أورثته عللاً نفسية وجسدية كثيرة، من مشاكل صحية بالرئة، ونفسية كنوبات الصرع التي كانت تعتريه وتشتد عليه تصاعدياً كلما تقدم بالعمر. نشأته المتقلبة في أسرة تتأرجح أحوالها ما بين اليسر والعسر ظلت شبحاً يهيم في فضاء ذاكرته، ويتسرب بكل متناقضاته الجحيمية إلى نصوصه.
في شبابه انضم لجماعة اشتراكية طوباوية تحلم بتوزيع عادل للثروات، وإنهاء الإقطاعيات الروسية التي كانت تعد كإمبراطوريات ماصة لدماء الفقراء. قُبض على ديستوفسكي ورفاقه، وحكم عليه وعلى عدد كبير من مجموعته بالإعدام. لينتهي الأمر بمشهد عبثي على جدار التنفيذ، حيث هو ورفاقه وقوفاً ووجوههم إلى الحائط بانتظار رصاص البنادق المصوبة نحوهم. تصل رسالة بوقف التنفيذ، وتخفيف الحكم إلى أربع سنوات في صقيع المنافي السيبيرية، مشهد سينمائي -ربما كان مخططاً له سلفاً- من قبل القيصر (نيقولاي الأول)، مشهد استخدمه ديستوفسكي لاحقاً كمكون روائي في روايته (بيت الموتى).
كتب لأخيه يصف حياته في الزنازين الجليدية المقرورة، (في الصيف أجواء لا تطاق. في الشتاء برد لا يحتمل، كل الأرضيات متعفنة، نحن محشورون كالسردين في برميل، لم يكن هناك مكان نذهب إليه من المغرب إلى الفجر، كان من المستحيل أن لا نتصرف كالخنازير. البراغيث، القمل، الخنافس السوداء، متواجدة بمكيال الحبوب) أي جحيم هذا؟
بعد خروجه من السجن أمضى ست سنوات أخرى في الخدمة العسكرية الإجبارية على الحدود الروسية المنغولية، وقد سمحت له السلطات بانفراجة نسبية في نشر كتبه، بعد مرورها طبعاً على الرقيب الروسي. هناك التقى بزوجته الأولى (ماريا)، لم يكن ارتباطه بها موفقاً إلى حد كبير، بسبب نوبات مرضه المتكررة، وإدمانه على لعب القمار، وزهد زوجته فيه، وعدم تقديرها لموهبته. تسربت فيما بعد أحداث هذه الفترة لتصبح روايته (المقامر) والتي كانت وللعجب سبباً في زيجته الثانية من تلميذته ومصففة كتبه (آنا جريجوري) التي هامت به حباً، وكانت موئلاً روحياً له، حتى أنها أصدرت كتابين عنه بعد وفاته.
عاش دستوفسكي مع (آنا) وأولاده الثلاثة الذين أنجبهم منها في ظل ظروف غاية في القسوة، اضطرته أحياناً لرهن معطفه من أجل المال الذي كان بحالة احتياج دائم له، في سبيل العائلة التي ظل وفياً لها وحتى مماته.
احتياجه للمال هذا جعل الناشرين في حالة بخس دائم لحقه، ما جعله أيضاً يكتب بشكل يومي دائم ويدفع للمطابع والمجلات للنشر حتى دون تنقيح.
من الغرائبيات البائسة المضحكة التي تدل على فقر الأسرة المدقع، ما روته (آنا) في مذكرتها أنهم اضطروا ذات ضائقة إلى اقتراض بقرة من أحد الفلاحين، توفيراً للبن أطفالهم، هربت البقرة منهم في صباح ممطر، فخرج ديستوفسكي باحثاً عنها بقلق، ليلحق به أحد معجبيه مستفسراً عن سبب لهفته، وحين أخبره أنه يبحث عن بقرة، ظن القارئ المتيم أنه رمز تعبيري منه عن ملاحقة أبقار أفكاره.
بين تولستوي وديستوفسكي
والسؤال الذي كثيراً ما أثير، لماذا لم تنعقد أواصر الصداقة بين أديبين كبيرين متقاربين في العمر، وعلى مسافة بضع كيلو مترات من بعضهما البعض؟ أديبان تركا علامة فارقة، وإزاحة مفصلية في تاريخ الأدب الروسي.
على الرغم مما أشيع عن نقد تولستوي أحياناً لجمل وعبارات ديستوفسكي، لكن بشكل عام ظلت العلاقة فيما بينهما -وعن بعد- علاقة ود وتقدير ومحبة، ربما هذا البعد هو بتدبير متعمد من كليهما حرصا فيه على عدم اللقاء وجهاً لوجه، حتى تظل العلاقة بهذا الشكل المثالي.
يدعم هذا الرأي ما ذكرته (آنا) التي دعمت علاقاتها بأسرة تولستوي بعد رحيل زوجها، من أن (تولستوي) أبدى ندمه على عدم التقرب من زوجها وصداقته، ووضع الذنب في رقبة (تورجنيف) غريم زوجها الأدبي الذي حال دون هذا اللقاء، بينما يذكر (تورجنيف) في مذكراته أن (تولستوي) نفسه هو الذي كان حريصاً على عدم التواجد في المحافل التي يتواجد بها ديستوفسكي.
أما (ديستوفسكي) فقد أتته الفرص تباعاً في المحافل الأدبية لمقابلة (تولتسوي) وأضاعها في حرص واضح على عدم تفعيل هذا اللقاء.
موت دستوفسكي
بعد استقراره في سان بطرسبورج انتابته عدة أزمات صحية، نصحه أطباؤه بعدها بالسفر إلى مكان أكثر دفئاً حفاظاً على حياته، وهو ما لم يفعله، لانشغاله بإنهاء روايته (المراهق)، وارتباطه بعدد من الندوات وفعاليات الجمعيات الأدبية التي أصبحت تتدفق عليه عضويتها الفخرية. تقول الرواية الرسمية لأسباب موته إنه نتيجة محاولة رفعه لطاولة سقط قلمه تحتها، فانفجرت شرايين رئته، بينما الرواية الأخرى تقول إنه مات حزناً أو -خوفا- بسبب القبض على مجموعة ثورية متطرفة يتزعمها جار له كان على علاقة به (اغتالت بقايا هذه المجموعة القيصر ألكسندر الثاني في الشهر التالي من رحيل ديستوفسكي).
تروي زوجته في مذكراتها أنها وقفت حائرة أمام جثته وعاجزة عن ترتيب الطقوس الجنائزية، فضلاً عن توفير مقبرة له، لتتفاجأ بالوفود التي أتت تباعاً حين علمت بموته، وبأمر من القيصر شخصياً الذي أرسل مندوبه يدفن (ديستوفسكي) في مقابر العظماء، مع قرار بصرف معاش دائم لأرملته، وتكفل تام بتعليم أولاده، لترفع دور النشر بدورها من عوائد مؤلفاته، التي تتضاعفت مبيعاتها بعد رحيله، والتي ظلت لعقود تبخسه حقه، وتستغل احتياجه لها.
في التاسع من فبراير العام 1881 خرجت سان بطرسبورج في جنازة مهيبة مودعة كاتبها، الذي كانت مؤلفاته كاشفة لأدق نوازع وهفوات النفس البشرية وخلجاتها المتقلبة بين الفضيلة والرذيلة، والذي خلد اسم روسيا كما لم يخلدها القياصرة المتعاقبون عليها، وكأن الأمم لا تعرف مقدار رجالها إلا حين يرحلون.

ذو صلة