مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

صور معلقة على أسوار الذاكرة

- (ما شتيش سبايكم ولا تبنان.. اشتي حبيبي قلبي شبعت طنان)
عيناها مبهورتان بما تراه، تتلفت يميناً ويساراً، بيوت شامخة، جدران تحكي قصص ساكنيها، ومن مروا بها، صوت يناديها:
- قمر.. قمر هيا سوف نتأخر؟ نريد أن نفطر في (سوق اللقمة) (سبايا) و(برعي) وعادهما ساخنين، هيا..
- حسنا هو ذا أنا قادمة ألتقط صورة لهذه القمرية ذات التحفة الفنية، بألوانها المتداخلة وكأنها لوحة سريالية.
تمر بجوار منزل في حارة (الفليحي)، بابهُ الخشبي منقوش بأشكال متقنة النحت، خشب ما حول مطرقته حفر وبهتت نقشته، تتحدث عن أنامل من طرقها، تجده شبه مفتوح، تقترب أكثر منه، يسترق سمعها صوت امرأة تغني بصوتٍ جميلٍ:
- (ما شتيش سبايكم ولا تبنان.. اشتي حبيبي قلبي شبعت طنان)..
بفرحٍ تقفز، تهمس بينها وبين نفسها: يا ألله.. يا لتلك الكلمات.. يا كم كان يستهويني سماعها من صوت أمي تغنيها في لحظة شجنها!
تطوف بها ذاكرتها إلى حوش منزلهم القديم في حارة (القازلي)، وهي تلعب مع شقيقتها لعبة شعبية، فقد كانتا تمسكان يديهما ببعض وتدوران حولهما، وتغنيان أهزوجة خاصة باللعبة: (تحتيبتي تحتيبة.. نزلت وأنا أجي به.. أدي لأخي خطيبة من الجنيب جنيبة.. حلفت يا مُحمّد.. ما زد دخلت لك بيت.. إلا بخيط رأسي والمقرمة حراسي)، تعلو ضحكاتهما تملأ المنزل.. هه هه هه، يستمر دورانهما، حتى تنقطع أنفاسهما، تصابان بدوارٍ، تسقطان على الأرض من شدة التعب.
تغني أمهما تلك الأغنية، فتدركان أنها تمر بحالة حنين إلى رفيق دربها، زوجها المغترب في الحبشة منذ خمسة أعوام.
تحاول قمر تذكر ملامحه، تعجز مخيلتها استدعاء صورته، فقط ملامح رجل يحملها ليقبلها قبل أن يغادر، لا تبقى غير صورة ظهره عالقة بمخيلتها ذات الأربع سنوات.
تلمح دمعة شوق تسقط من عين والدتها على مطحن الحبوب، أثناء طحنها حبوب الذرة لعمل خبز اللحوح، تنصهر الدمعة بالطحين، تخبز بجمر الشوق، تفوح رائحة ذكرياته معها، لمساته الحانية، دفء حبه، ضحكة عيونه، تغمض عينيها لتعيش تلك اللحظة في مخيلتها.
هي لا تشعر بهما، عيناها شاخصتان في البعيد، في بلاد تأكل الرجال، لا يعودون إلا جثثاً، أو يسبقهم أطفال من زوجة أخرى، هم ثمرة الغربة، هي تظل تنتظر حتى يذبل جمالها، قمر تدرك معنى تلك النظرة التي تبحث في البعيد.
- قمر.. قمر هيا ما بكِ ساهمة هكذا؟
- لا.. لا شيء، ها أنا قادمة..
تمسك قمر يد صديقتها، تمران عبر حارة (الفليحي) إلى سوق اللقمة، تدخلان مطعم تأكلان (قرص سبايا)، طبق (برعي)، تدلعان نفسهما (بنفر كباب) مع (الزحاوق) ذات الفلفل الحار، و(الكدم) الساخنة، تلتهمان كل شيء بنهم.
تتجهان نحو (سوق الجنابي)، تصر قمر على شرب فنجان بن بالحليب في (سمسرة وردة)، يُمنع دخولهما، فقد صارت مخصصة للرجال، تصر قمر على شرب البن، ترتشفان قهوتهما فوق دكة بجوار السمسرة، تلتقط صور لبوابتها من الخارج، لترفقها ببحث تخرجها عن عمارة وأسواق صنعاء التاريخية.
تغادران (سوق الجنابي)، تدخلان سوق الفضة، تذهلهما أشغال الفضة من حلي وخناجر وأدوات زينة، تسألان عن تلك النقوش المنحوتة في بعض الخواتم، يقال لهما إنها شغل عامل يهودي يدعى (البديحي) وآخر (البوساني)، كانا قد اشتهرا بهذا الفن.
تمران بالقرب من (سمسرة سوق الزبيب)، تستوقفهما نقوش و(خرشات) بابها التاريخي، هناك تُرص أنواع الزبيب، حسب درجات جودتها، تسحرهما أعمدتها المقوسة، تشعران أنهما دخلتا كتاب التأريخ، لتمرا بين سطوره، حارة حارة، سوقاً سوقاً، تدق باب مدينة صباها، وصبا والدتها، هنا ولدت، وهنا تربت، إلى أن أرسل والدها المال لشراء منزل أكبر في حي حدة غرب صنعاء.
تحلم برسم مشربيات تلك البيوت الدافئة بحب وأنفاس أهلها، تشم رائحة البهارات المنبعثة من سوق الحبوب في سوق الملح، تسمع دقات صانعي الأواني الحديد، صور أشخاص يعرضون بضائعهم على جانبي الطريق.
في نهاية تجوالهما دخلتا حمام الأبهر البخاري، هو من أشهر الحمامات البخارية في صنعاء، يعود بناؤها إلى عهد وجود الأتراك.
- قمر كفي عن اللعب بالماء، يا لكِ من طفلة عنيدة، هيا تعالي أدلك ظهركِ، هيا يا بنيتي تعالي..
ذلك هو صوت أمها، وهي تجري خلفها في جوانب الحمام، فتهرب مختفية بين غرفه المظلمة، وخزائنه ذات الحرارة المرتفعة، تمسك بها، تضمها إلى صدرها، تخلع عنها ثيابها المبللة، تدلك ظهرها بكيس الحمام، تغسل شعرها، ترفعه، تصب الماء على جسمها النحيل، تلفه بمنشفة مبخرة ببخور الكاثي، تحضنها خارجة بها إلى صدر الحمام معتدل الحرارة، تلبسها ثيابها النظيفة، تنشف شعرها، تظفره، تغطيه بمنشفة بيضاء، تأمرها أن تظل هادئة حتى عودتها بعد انتهاء حمامها.
تبتسم لسيل حبل ذكريات طفولتها، تكمل يومها بالاستحمام مع صديقتها، تحاول أن تناوشها، كي تسترجع شقاوة تلك الأيام، يرتفع صوت ضحكاتهما، تمني نفسها بشرب ماءٍ مبخرٍ باردٍ، تتواعدان أن تخصصا يوماً من كل شهر لزيارة مدينتها، والاستمتاع بحمام بخاري.
في غرفتها، تخلع تعب ذلك اليوم مع ثيابها، تتجه نحو حاسوبها، تفتح ملف بحثها، ترفق صور رحلتها به، تبتسم مع كل صورة، تغمض عينيها، تحتضنها أحداث يومها.
بعد مرور ثلاث سنوات كانت عيناها تبحث في البعيد.. تغني بشوق:
- (ماشتيش سبايكم ولا تبنان.. اشتي حبيبي قلبي شبعت طنان)

ذو صلة