مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

ضيف المقهى

غادرت الحافلة عائداً من عملي متجهاً لمنزلي، وتوقفت قليلاً عند المقهى في مدخل الحي، كل شيء هادئ، ماعدا الأصوات التي تنطلق من المقهى الذي اعتدت أن أشرب شاي العصر فيه، وأستمع من مرتاديه لأخبار الحي والبلد والعالم، ثم أذهب لمنزلي حتى اليوم التالي.
جلست على الكرسي الفارغ القريب من الباب، أستمع لحديث الناس عن الأمريكيين وموقفهم الداعم للكيان الغاصب، كل متكلم ينقل ما استمع إليه في الراديو أو قرأه في الصحف، أو شاهده عبر القنوات الفضائية.
جاء العم إسماعيل وجلس قريباً مني، وكان يتلفت كثيراً وكأنه طفل يخاف من المطر، اقترب مني أكثر وهمس: سوف أسافر الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كيف أجد سيارة أجرة توصلني للمطار في هذا الوقت؟
أجبته: تستطيع أن تتصل بمكتب التأجير لتحضر لك سيارة، وأعتذر لك بأن هذا الوقت أكون فيه نائماً.
عرضت عليه أن يقترب ويجلس معي على نفس الطاولة لنشرب الشاي معاً، لم يمانع وجلس بهدوء.
قلت له: إلى أين ستسافر؟
قال بعد صمت وهو ينظر للسقف: (هناك نذهب.. حيث لا شيء ينتظر.. ونجد كل شيء ينتظرنا..).
‏‫كما يقول بابلو نيرودا.
ستسافر إلى المجهول؟
لا يهم.. هل قرأت شيئاً لنيرودا؟
لا.
يقول: (يموت ببطء.. من لا يسافر، من لا يقرأ، من لا يسمع الموسيقى، من لا يعرف كيف يستخدم عينيه). كثيرون لا يقرؤون.. هل ماتوا؟ (صمت وهو يحك لحيته ثم قال: سأسافر حتى لا أموت ببطء، هل تفهم؟ (وهو ينظر إلي بحدة) هل قرأت لمحمد العلي؟ لا لم تقرأ.. أنت تموت ببطء.. "من أراد أن يكتشف مكر الكتابة فليقرأ محمد العلي).
هرباً من فلسفته غيّرت دفة الحديث وسألته: هل أضع لك السكر في الشاي؟
حرك يديه في الهواء بحركة تدل على الرفض قائلاً: لا.. لا.. مُنذُ كنت طفلاً تعودت أن أشرب الشاي دون سكر.
بعد أن أتى على كوب الشاي حتى أكمله، طلب مني أن أرافقه لغرفته، فهو يحتاج إلى من يعاونه في إعداد حاجات السفر.
في غرفته الضيقة ضعف نور المصباح حتى كاد أن ينطفئ، تقدم وأنا أراقب ما يقوم به، وضع في حقيبة سفره ملابس شتوية، وكأنه ذاهب للقطب الجنوبي.
سألته: لماذا كل هذه الملابس؟
إنني أخاف من المفاجآت، والاحتياط واجب.
إنها أيام معدودة، هل ستجلس هناك طوال السنة؟
اترك هذا الحديث وساعدني، اجلب من الثلاجة الجبن، والسكر والشاي من الدولاب المقابل لحوض الغسيل.
لكنك تشرب الشاي دون سكر.
وإذا زارني ضيف.. كيف سأضيفه.
ابتسم وهو يكمل ضم الحاجات إلى بعضها، وذهبت للمطبخ لإحضار ما طلبه، لكنني لم أجد الجبن:
أين وضعت الجبن؟
هناك في الثلاجة.
لا يوجد شيء.
فتش لعله في أحد الأدراج.
لا يوجد.
لعل أحداً أخذه.. بعد صمت قصير حك رأسه وقال: لا بأس نشتري من البقالة.
وقبل أن أغادر تأكدت من إقفال الحقيبة جيداً، ثم ودعته وغادرت.
في صباح اليوم التالي وجدته في المقهى يتناول إفطاره المعتاد، قطعة خبز، وحبتا فلافل وجبن، وكأس شاي بالحليب.
ربما هي المرة الألف يوظب حقيبته لكنه لا يسافر، وكلنا يعرف ذلك لكننا نمسح الذاكرة ونعيد ترتيب المشاهد، فمنذ أن توفيت زوجته وهو ضيف خفيف الظل ليس على المقهى بل على الجميع.

ذو صلة