مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

(الإبل).. شيء من تكوين وجدان الإنسان العربي

لم تكن الناقة في حياة الشعوب والقبائل العربية حديثاً عن حيوان مضى على أربع بزاد في جوف سنامه. إنما هي بعض من تكوين ذاك الإنسان وطريقته في الحياة. فهكذا كان قول مارون عبود في كتابه (الرؤوس) عن ناقة العربي في ثقافته الفطرية غير المستعارة أو المصطنعة.
(ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إليَّ من لبس الشفوف
فهي كل شيء، تصلح لكل ما له من مآرب، فهي الجبة والرداء، والقميص واللحاف، والبرنس، والمشمع، والطراحة، وهي خيمته تقيه الهجير، متى أركز عصاه في الرمل ونشرها عليها وقعد يتفيأ ليستريح أو ينام. اعذره ولا تملَّ، متى قرأت وصفه الناقة، فهي مستودع البقاء، هي سيارته الخاصة، وهي سيارة الشحن، وهي مطبخه وإهراؤه، هي مصدر جميع المواد اللازمة له، ومن وبرها يكتسي، ولله درها! فكل ما فيها نافع، حتى زبلها، فإنه كالفحم الحجري).
ولعلنا نلاحظ التقاء القرينين ووقوع الطيور على أشكالها فيما بين طبائع الإنسان العربي وطبائع الإبل، فاذا نظرنا إلى أحدهما عرفنا طريقة حياة الآخر وتكوينه العقلي والوجداني. فكلاهما يتسم بالفراسة الشديدة وإلا لما عرف كل منهما طريقه في الصحراء الممتدة باتساع الأفق ليلاً ونهاراً، كلاهما لا ينوء بحمل يحمله ولوكان بثقل وزنه، وكلاهما ذو بأس شديد صبور معراك للشدائد، وكلاهما انطباعي لا ينتظر أن يتجمل الشيء أمامه حتى يحكم عليه ولا يكلف نفسه هم الغوص عميقاً، فهما على ما وصف مارون عبود لحال الإنسان العربي: (إن الإقامة الدائمة في مكان ما تحمل الإنسان على إطالة التفكير بما حوله، أما المسافر الدائم، سليل الشيخ يعرب، فلا ينظر إلا إلى مظاهر الأشياء، ولهذا لا يتعمق العربي في موضوعه، لقد شبهته بالنحلة تأخذ حاجتها من الزهرة وتظل الزهرة زهرة، لا ينقص شيء من عرفها وجمالها وطراوتها). وكلاهما صبور حليم غيور في آن معاً، يطيش صوابه متى أجبرته على فقد صبره بأن مسست كرامته بجرح صغير، فكلاهما لا ينسى وينتقم في مقتل، فحسيتهما مفرطة وتفاعلهما مع أحداثهما حار جارف لا يمهل وانظر كيف يكون شعور الإبل آدمياً رقيقاً عندما يحمل (الجمل) هودج فتاة فوقه فيحرص في مشيه متراقصاً، أو عندما تحمل (ناقة) فوق سنامها رجلاً خشن البناء وسيم المحيا فارساً تضرب برجلها الأرض ركضاً فلا يشق له بجريها غبار.
وهكذا فإن الشاعر العربي عندما يصف إبله فإنما هو يصف نفسه أو يصف التكوين الوجداني لإنسان العرب. فلو قال أحدهما:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
فهو من سطوره الشعرية يلبس وجده ثوب إبله كناية عن العاطفة الطاغية، فالإبل لا يقتلها ظمأ إلى الماء وإنما يقتلها الوجد بمن هو أمامها ولا تدرك منه اهتماماً أو رعاية، وما الإنسان في ثقافته العربية سوى ذلك العيس في عشقه الذي يحجب حياؤه الفطري عنه معشوقه وهو بين يديه.
ولما قال إبراهيم بن العباس الصولي:
ولو سئلت عني القلوص لأخبرت
عن مستقر صبابة المحزون
فما كان ذاك إلا لوجدان العربي المعجون بوجدان ناقته، فإذا ضُرب مثل بأحدهما تمثل له الآخر وصار القرين للمقارن يُنسب.
ولما آتى الله ثموداً الناقة مبصرة (الآية في سورة الإسراء) كانت مبصرة بما هم يبصرون، والإبصار ليس هو مد النظر العيني بل النظر المخترق لما تراه العين ولوجاً إلى الباطن وما خفي خلف الصدور، فهو أقرب إلى الحدس الإلهامي الذي يكشف عن كينونة المبصر من طريقة تفاعله بمن يبصره حباً أو كرهاً أو فتنة أو احتراقاً وجدانياً.
وهكذا، إذا كانت الفلسفة الراهنة في عصرنا بتياراتها التحليلية تبحث في وسائل قراءة العقول الأخرى لأجل أن تكشف عن طرق حياتها ومن ثم تنشئ جسوراً للتعامل المناسب بينها، فإن هذه العقول تكشف عنها صنائعها المخصوصة وما تباهي به نفسها عن غيرها، فإذا كان الإنسان (الآري) فيما وراء البحار يُعرف عقله وتكوينه النفسي ومن هو من قصوره وأبنيته، فإن الإنسان (العربي) يُعرف عقله وتكوينه النفسي من نوع إبله وخيوله. وهذا ضمان كاف لعدم اندثار ثقافة الإبل في المجتمع العربي الأصيل، فإن ما تدثره الحداثة التكنورقمية والذكاء الاصطناعي هو ما كان تراثاً ينتهي وصائر إلى محض ذكرى وأثر قديم، أما ما كان لبنة في طريقة حياة وعلامة وجود لشعب وسمة مميزة لشخوصه فإنه ينمو مع النمو الحضاري ولا ينتهي أو يموت، بحيث يكون كل جديد هو مضاف إليه وليس خصماً منه، إلا إذا قتلنا أنفسنا ووجودنا بأيدينا وطمسنا على هويتنا بالاجتهاد في ارتداء زي غريب علينا يضيق عن أجسادنا أو يفيض عليها. ولذلك فحياة الإبل ليست تراثاً وإنما هي حاضرة حياة.
من هنا كانت الرمزية الثقافية للإبل في تكوين وجدان الشعوب العربية هي مسألة هوية وجوداً مع كافة العناصر الأخرى لهذه الهوية وعدماً. ولذلك فلا مفر من أن تواكب هذه الهوية بكل عناصرها مقتضيات التطور الحضري حتى لا يجد صاحبها نفسه موضوعا على مفترق طريقين ولا يكون له خيار إلا بسلوك أحدهما، فإما أن يتخلى عن هذه الهوية وينسلخ منها ليلحق بركب التطور الذي تقود به العالم هويات أخرى غريبة عليه فيصير مسخاً بلا معالم، وإما أن يقف متحجراً ممسكاً بهويته الساكنة ويدع ركب التطور الحضري يسبق عليه ومن ثم يصير معزولاً عن باقي الشعوب في سيرها ونموها وتحولاتها. فكيف، والحال هكذا، يمكن تطوير عناصر هذه الهوية دون أن تفقد ذاتها ولونها الوجودي؟ والإجابة هي أن يتم هذا التطوير على ذات السياق الذي تفرضه طريقة الحياة نفسها وبحسب خصوصيتها وليس على سياق غريب عنها مخصوص لهويات أخرى. فنحن نرى الخيل الأصيلة، على سبيل المثال، تزداد علواً وتألقاً كلما تقدم العالم حضارياً ليجعل من اقتنائها وتربيتها وركوبها سمة للطبقات الأرستقراطية ودلالة على الرقي الحضاري رغم أن زمان الفروسية الفعلية الذي كانت فيه الخيل ذات وظيفة عملية لا غنى عنها قد ولى منذ مئات السنين. ولكنه مبدأ (التطور على ذات السياق) فلم تفقد الخيل معنى وجودها بدلالة الفروسية القديمة، فماذا إذاً لو كان المعنى ذا دلالة إنسانية كما هي دلالة الإبل.

ذو صلة