مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الإبل.. رفيقة الشاعر القديم في حبه وترحاله

لم يكن حضور الإبل في الشعر العربي القديم حضوراً عابراً، بل كانت أحد الأركان الرئيسة المهيمنة في بنية القصيدة العربية، ولم يكن الشاعر العربي -منذ الشعر الجاهلي- يتعاطى مع ناقته بوصفها شيئاً يعينه على التنقل، ولم يرها مجرد وسيلة لعبور الصحراء والسفر خلال دروبها، أو محض شيء أو حيوان يستخدمه لغرض نفعي، فقد تسامى الشعراء العرب بإبلهم ونياقهم، ومنحوها مكانة مركزية للغاية في قصائدهم، فقد تجاوز حضورها مجرد الشيء أو الوسيلة أو الحيوان، إلى الأنيسة والصديقة ورفيقة الرحلة، والمعادل الموضوعي للحبيبة أحياناً، ووصل الحال بهؤلاء الشعراء حد تغزل الشاعر في ناقته وجمالها وتناسق جسدها، وسرعتها إلى آخر الصفات الجسدية والمعنوية التي يمكن أن يمدح بها إنسان إنساناً آخر.
العلاقة الحميمة بين الشاعر وناقته، جعلت وصف الناقة غرضاً رئيساً من أغراض الشعر، حتى احتل وصفها مكانة ومساحة مهمة في القصيدة العربية القديمة، ومن ثم لعل الشاعر العربي -ممثلاً للإنسان العربي عامة، والحضارة العربية بوجه أشمل- كان سابقاً وسباقاً في حقوق الحيوان، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن هذا الشاعر لم ير الناقة مجرد حيوان، بل أنسنها، واتخذ منها صديقة ورفيقة، فهي المصاحب له في الرحلة، والمعينة له في الحرب، إنها مستودع أسراره، ويبث لها عشقه ولواعجه، يحتفي بها، ويتغزل فيها، يعتني بها، ويحتفي بها، يكرم نزلها، حتى أن هذا الشاعر عندما يدق قلبه بحب حبيبته، فإنه لا ينسى إبله في خضم انشغاله بعواطفه، بل يستطيع أن يرى حب إبله الذي يوازي حبه هو لحبيبته، كما فعل الشاعر (المنخل اليشكري)، حين قال:
أحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
ففي خضم اعتراف الشاعر بحبه لحبيبته، وفي فورة هذه المشاعر، كان ثمة قصة حب موازية، لا تقل أهمية، بل ربما تكون أكثر مركزية، وتمثل مركز ثقل دلالي مهم، وهي علاقة الحب بين ناقة الحب وبعير الشاعر، وإذا افترضنا جدلاً حذف هذا المقطع الخاص بالناقة والبعير، فإن البيت لا يفقد فقط جزءاً مهماً من جماله، لكنه يفقد شعريته، بل ووجوده بالأساس، فشعرية هذا البيت تتأتى من الإيقاع الذي يغلف المشهد، بين الثنائيين -الثنائي البشري وثنائي الإبل- وما يقدمه البيت الشعري من تاريخ مضمر لعلاقة الشاعر بحبيبته، وعلاقة الناقة بالبعير، وكثرة اللقاءات التي تولد عنها هذا الحب في قصتيه الماثلتين في البيت الشعري.
يحفل الشعري العربي -والجاهلي خاصة- بنماذج مختلفة لحضور الناقة، ومن أشهر الشعراء الجاهليين الذين كان حضور الناقة في شعرهم باذخاً امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، ولبيد بن ربيعة وغيرهم الكثير من الشعراء، حتى أضحى وصف الناقة جزءاً من بنية القصيدة العربية القديمة، وركناً رئيساً من أركانها الجمالية والرؤيوية، فأحياناً تصبح الناقة بالنسبة للشاعر بديلاً عن العالم الذي قرر اعتزاله، أو بديلاً عن الحبيبة التي هجرته، أو حافظة للسر بديلاً عن الصديق الذي ربما يذيع الأسرار.
ويتوقف طرفة بن العبد مطولاً عند وصف ناقته، وهو من أبرع من تعلقوا بالناقة، واستغرقت مساحة كبيرة جداً من معلقته، حتى تبدو كأنها الموضوع المركزي في المعلقة كلها، فيسهب في وصف محاسنها وتناسق جسدها، فهي المركز الذي يتمحور حوله عالم طرفة، وعمود الخيمة في معلقته، التي نورد منها هذه الأبيات:
وإِنِّي لأُمْضِي الهَمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ
بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَلُوحُ وتَغْتَدِي
أَمُوْنٍ كَأَلْوَاحِ الإِرَانِ نَصَأْتُهَا
عَلَى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ
جُمَالِيَّةٍ وَجْنَاءَ تَرْدَى كَأَنَّهَا
سَفَنَّجَةٌ تَبْرِي لأزْعَرَ أرْبَدِ
تُبَارِي عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وأَتْبَعَتْ
وظِيْفاً وظِيْفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعْبَّدِ
تَرَبَّعْتِ القُفَّيْنِ فِي الشَّوْلِ تَرْتَعِي
حَدَائِقَ مَوْلِىَّ الأَسِرَّةِ أَغْيَدِ
تَرِيْعُ إِلَى صَوْتِ المُهِيْبِ وتَتَّقِي
بِذِي خُصَلٍ رَوْعَاتِ أَكْلَف مُلْبِدِ
كَأَنَّ جَنَاحَيْ مَضْرَحِيٍّ تَكَنَّفَا
حِفَافَيْهِ شُكَّا فِي العَسِيْبِ بِمِسْرَدِ
فَطَوْراً بِهِ خَلْفَ الزَّمِيْلِ وَتَارَةً
عَلَى حَشَفٍ كَالشَّنِّ ذَاوٍ مُجَدَّدِ
لَهَا فِخْذانِ أُكْمِلَ النَّحْضُ فِيْهِمَا
كَأَنَّهُمَا بَابَا مُنِيْفٍ مُمَرَّدِ
وطَيٍّ مَحَالٍ كَالحَنِيِّ خُلُوفُهُ
وأَجْرِنَةٌ لُزَّتْ بِرَأيٍ مُنَضَّدِ
كَأَنَّ كِنَاسَيْ ضَالَةٍ يَكْنِفَانِهَا
وأَطْرَ قِسِيٍّ تَحْتَ صَلْبٍ مُؤَيَّدِ
لَهَا مِرْفَقَانِ أَفْتَلانِ كَأَنَّمَا
تَمُرُّ بِسَلْمَي دَالِجٍ مُتَشَدِّدِ
كَقَنْطَرةِ الرُّوْمِيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَا
لَتُكْتَنِفَنْ حَتَى تُشَادَ بِقَرْمَدِ
صُهَابِيَّةُ العُثْنُونِ مُوْجَدَةُ القَرَا
بَعِيْدةُ وَخْدِ الرِّجْلِ مَوَّارَةُ اليَدِ
أُمِرَّتْ يَدَاهَا فَتْلَ شَزْرٍ وأُجْنِحَتْ
لَهَا عَضُدَاهَا فِي سَقِيْفٍ مُسَنَّدِ
فعندما يصيب الهمُ الشاعرَ ويحاصره، لا يجد مفراً ومهرباً منه سوى مع ناقته، وتكون هذه هي العتبة النصية التي يتحول فيها الشاعر إلى التركيز على ناقته، ووصف سرعتها وذكائها، وإطاعتها له، وتفصيل مزاياها، ووصفها وصفاً حسياً متغزلاً في تفاصيل بنيتها الجسدية المميزة، جمال ومثالية ذيلها وفخذيها وظهرها وعضدها وطولها وشعرها وعينيها وأذنيها، فكل ما فيها جميل وقوي ومميز، سواء كانت صفاتها الجسمانية أو المعنوية.
نحن هنا لسنا أمام محض وسيلة للتنقل، بل إننا بصدد حبيبة موازية، وجزء مهم من هوية الشاعر ووجوده، فهو متوحد مع ناقته، وتمثل ركناً أصيلاً من رؤيته للعالم، إنها المثال والنموذج، الذي تحقق له رؤيته ومصاحبته.
ولا يختلف لبيدة بن ربيعة في معلقته عن طرفة، فها هو الآخر يسهب في وصف الناقة التي تحمل حبيبته وترحل بها، ورغم أنها وسيلة لابتعاد الحبيبة ونأيها فإنه لا يفوت فرصة الإسهاب في وصف الإبل التي حملت هودج الفتاة وأهلها، حتى يصبح وصف الناقة غرضاً في ذاته، فهو -مثل طرفة- يستغرق نحو ثلاثين بيتاً في وصف الناقة، نذكر منها:
بِطَليحِ أَسفارٍ تَرَكنَ بَقِيَّةً
مِنها فَأَحنَقَ صُلبُها وَسَنامُها
وَإِذا تَغالى لَحمُها وَتَحَسَّرَت
وَتَقَطَّعَت بَعدَ الكَلالِ خِدامُها
فَلَها هِبابٌ في الزِمامِ كَأَنَّها
صَهباءُ خَفَّ مَعَ الجَنوبِ جَهامُها
أَو مُلمِعٌ وَسَقَت لِأَحقَبَ لاحَهُ
طَردُ الفُحولِ وَضَربُها وَكِدامُها
يَعلو بِها حُدبَ الإِكامِ مُسَحَّجٌ
قَد رابَهُ عِصيانُها وَوِحامُها
بِأَحِزَّةِ الثَلَبوتِ يَربَأُ فَوقَها
قَفرَ المَراقِبِ خَوفُها آرامُها
حَتّى إِذا سَلَخا جُمادى سِتَّةً
جَزءً فَطالَ صِيامُهُ وَصِيامُها
رَجَعا بِأَمرِهِما إِلى ذي مِرَّةٍ
حَصِدٍ وَنُجحُ صَريمَةٍ إِبرامُها
وَرَمى دَوابِرَها السَفا وَتَهَيَّجَت
ريحُ المَصايِفِ سَومُها وَسِهامُها
فَتَنازَعا سَبِطاً يَطيرُ ظِلالُهُ
كَدُخانِ مُشعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرامُها
إنه يصف رشاقة الناقة وخفة حركتها وسرعتها ورشاقة جسدها، ويشبهها حيناً بالسحابة الصهباء بعد أن فقدت لحمها، فصارت سريعة الحركة في خفة السحاب، كما يشبهها بالأتان التي يسوقها فحلها بعنف غيرة عليها من بقية الفحول، فيجعلها تجري بسرعة مفرطة.
ولم يفوت امرؤ القيس وصف الناقة، فعمد إلى الفخر بها وبسرعتها، ووصف ما تثيره من غبار وزوبعة حولها عند جريها من فرط سرعتها، ومدى تحملها لصعوبة السفر والترحال في الصحراء المقفرة، فيقول:
تُقَطِّعُ غيطاناً كَأَنَّ مُتونَها
إِذا أَظهَرَت تُكسي مُلاءً مُنَشَّرا
بَعيدَةُ بَينَ المَنكِبَينِ كَأَنَّما
تَرى عِندَ مَجرى الضَفرِ هِرّاً مُشَجَّرا
تُطايِرُ ظِرّانَ الحَصى بِمَناسِمٍ
صِلابِ العُجى مَلثومُها غَيرُ أَمعَرا
كَأَنَّ الحَصى مِن خَلفِها وَأَمامِها
إِذا نَجَلَتهُ رِجلُها خَذفُ أَعسَرا
كَأَنَّ صَليلَ المَروِ حينَ تُشِذُّهُ
صَليلِ زُيوفٍ يُنتَقَدنَ بِعَبقَرا
عَلَيها فَتىً لَم تَحمِلِ الأَرضُ مِثلَهُ
أَبَرَّ بِميثاقٍ وَأَوفى وَأَصبَرا
لعل مثل هذه النماذج التي ذكرناها، وهناك غيرها الكثير، تؤشر على مركزية الإبل في المدونة الشعرية العربية، منذ فجرها الأول في الشعر الجاهلي، وحضورها المركزي كركن أصيل في القصيدة العربية، كجزء من هوية الإنسان العربي، ومن تكوينه، فقد ارتبط بها نفسياً وحياتياً، فهي وسيلته في السفر والرحلة، وهي أيضاً وسيلته في الحرب، وهي التي تحمل الحبيبة آتية أو راحلة، ومن ثم فإن الإبل موجودة وحاضرة بشكل يومي، وجزء مهم من عالم الصحراء الذي كان يحيا فيه الشاعر العربي القديم، ومثلت أحد تجليات وجوده، وأهم مظاهره، وهذا ما جعل لها هذا الحضور الجمالي الطاغي في قصيدته، فهي المعادل الموضوعي للحب والحرب، للسفر والرحلة، للمسامرة والنجوى، إنها لا تقل عن الصحراء التي يعيش فيها، ولا النجوم التي يهتدي بها، ولا الحبيبة التي يهيم بحبها، ولا الصديق الذي يبث به شكواه، بل لن نكون مبالغين أنها كانت كل هؤلاء بالنسبة للشاعر، تمثل له هذا العالم كله، عالمه الخصب المليء بالحب والحرب والترحال والوجع والفراق، إنها رمز كبير لكل هذا العالم.

ذو صلة