مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

مزية الجمل في القرآن الكريم وثقافتنا العربية

للكائنات الحية حضور وافر في ثقافتنا العربية، فقد احتفى القرآن الكريم بها، إذ نجد سوراً عديدة سميت بأسماء بعضها، مثل سور (البقرة والأنعام والنمل والنحل والفيل)، كما أن كثيراً منها مبثوثة في العديد من السور الأخرى. وجميع هذه الكائنات لا تتقدم على صورة الجمل الذي خصه الله تعالى بمكانة كريمة في عدد من السور، وحسبه من ذلك أن يكون آية من آياته حين جعله (الناقة) آية من آياته للنبي العربي صالح عليه السلام إلى قومه (ثمود)، بقوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ) هود/64، كما دعا الناس كافة إلى تأمل بديع صنعه في خلق الجمل، بقوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) الغاشية/17، دعوة كريمة للتفكر بإبداع الخالق وعظيم صنعه.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا عليها السير). وهذا تكريم للإبل في الخصب والجدب.
ولماذا الجمل وحده مخصوص بالتفرد بين هذه الكائنات، وكلها دالة على عظمة الخالق وقدرته؟
لقد وجدت رجحان صورة الجمل على هذه الحيوانات لأنه: وسيلة نقل صلبة وسريعة وصبورة ومطيعة، ويتفرد بقدرته على قطع المسافات البعيدة دون توقف وتعب، ورأيت في هذا الكائن الفريد رموزاً تستوقف المهتم وتدعوه إلى التفكر بهذا المخلوق الذي دعانا الخالق إلى استجلاء أسراره:
- فهو الحيوان الوحيد الذي يقتحم الصحراء غير هيّاب ولا متردد، لأن الله تعالى هيأ له خفاً لا يغوص في الرمل كبقية الحيوانات، ويتحمل العطش لأيام طويلة لمعجزة أودعها الخالق في تكوينه، ويكتفي في طعامه بالشوك الذي يصادفه لأنه تميز بشفتين مشقوقتين يعالج بهما هذا الطعام الصعب.
- وهو كائن وديع مسالم لمن يحترمه، وحسبه من كل صفاته أن يبرك على الأرض بوقار لافت ليحمل راكبه وأمتعته.
هذه الأسرار تجعلنا نرى في الجمل جملة من الرموز وأذكرها على النحو التالي:
- هو رمز القوة والبقاء لصموده وتحمله العيش في أقسى الظروف وأصعب البيئات.
- هو رمز الثروة لأنه الحيوان القادر على تحقيق الوسيلة الآمنة لرحلات التجارة الطويلة، فحرص أثرياء التجار على اقتناء السلالات القوية والأصيلة منه والتي احتلت مكاناً طيباً في ثقافتنا العربية، وكانت المملكة العربية السعودية من الدول السباقة إلى إقامة مهرجانات كبرى لأقوى سلالات الإبل وأجملها تحت عناوين أصبحت معروفة (مزايين، ومنقيات)، وهو اهتمام كريم لترسيخ أساسات هويتنا العربية الحضارية.
- وهو رمز الطاعة، فقد أودع الله تعالى فيه مزية الخضوع لصاحبه، وإسلاس قياده لأصغر طفل.
- وهو رمز الفخر، فقد استقر في وعي العربي المفاخرة بكثرة جماله وأصالتها وما حققته له من قيمة في المجتمع.
احتفى الشعراء والأدباء العرب بالجمل، وذكروه في نصوصهم بما يستحق من التكريم، يقول الشاعر امرؤ القيس:
تُقطع غيطاناً كأن متونها إذا
أظهرت تكسي ملاء مُنشّرا
بعيدة بين المنكبين كأنما ترى
عند مجرى الضفر هراً مُشجرا
فهذه الناقة عظيمة الخلق ذات شكيمة قوية وقادرة على أن تسير مسافات بعيدة دون تعب.
أما ناقة طرفة بن العبد فهي نشيطة وقوية وسريعة وتتناسب مع طبيعة شعر طرفة الذي يأخذ القارئ إلى جوانب من الحكمة وفلسفة الحياة والموت يقول:
إني لأمضي الهمَّ عند احتضاره
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
فهذه الناقة سريعة عند ركوبها ذات همة عالية في كل وقت، وهي متصفة بالوفاء والإخلاص والطاعة يقول:
تريع إلى صوت المُهيب وتتقي
بذي خصل روعات أُكلف مبلد
هذه الناقة التي أطال الشاعر طرفة في وصفها ذات همة خارقة وقادرة على إزالة همه.
أما الشاعر المثقب العبدي فيعد من أهم شعراء العرب في وصف الناقة التي رافقته في القصيدة وهو يرسل عتابه لصديقه الملك عمرو بن هند، وكانت نعم الصديقة للشاعر وهو يهيم على وجهه في الصحراء مهموماً متكدراً ويقول في قصيدته النونية:
فسلِ الهمَّ عنك بذات لوث
عذافرة كمطرقة القيون
بصادقة الوجيف كأن هراً
يباريها ويأخذ بالوضين
وتعد لوحة الناقة في هذه القصيدة من أجمل اللوحات الشعرية في أدبنا العربي، حيث رصد فيها الشاعر كافة المعاني والرموز الجميلة التي يستحقها هذا الكائن الفريد.
وقال المتلمس:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره
بناج عليه الصيعرية مكدم
وذكر الجاحظ في كتابه (الحيوان) قصة ظريفة وقعت له مع أعرابي يحب الإبل، إذ قال للأعرابي: مسخك الله بعيراً! فرد عليه قائلاً: الله لا يمسخ الإنسان على صورة كريم، وإنما يمسخه على صورة لئيم، مثل القرد والخنزير. فتعجب الجاحظ من رده قائلاً: فانظر كيف تكلم هذا الأعرابي على فطرته.
وقالت العرب قديماً عن الإبل: إن الله تعالى لم يخلق نعماً خيراً من الإبل، إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
ومما ذكره العرب عن الجمل في أقوالهم وأمثالهم:
- جمل المحامل.
- تشبه المرأة أباها أو أخاها بقولها (يا جملي).
- أهكذا تورد يا سعد الإبل.
- لا في العير ولا في النفير.
- الذود إلى الذود إبل.
- لا ناقة لي فيها ولا جمل.
- كفى برغائها منادياً.
هذه إلمامة سريعة حول الجمل طوّفت بها على بعض المصادر الثقافية التي احتفت به، وإنه لكائن فريد يلفت النظر إلى بديع خلقه، فكُتب عنه الكثير في أوعية العلم والثقافة، وأولته بعض الدول اهتماماً خاصاً مثل المملكة العربية السعودية.

ذو صلة