مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الإبل ضابط إيقاع لمعزوفة الكيان السعودي في الصحراء

عندما يصف المحقق المعروف الأستاذ الدكتور حاتم صالح الضامن كتاب (الإبل) لأبي سعيد عبدالملك بن قريب الأصمعي (المتوفى 216 هـ) الذي حققه قبل (21) عاماً بقوله: (وبعد فهذا كتاب نفيس طبع قبل 100 عام عن الإبل التي لها أثر كبير في حياة العربي، فهي التي تمده باللبن وتنقله من موضع إلى آخر، حاملة ما لا يستطيع غيرها من أثقال، وتهبه لحومها وشحومها وجودها وأوبارها، وتحفظ له الماء في كرشها إن نفد منه الشراب، واضطرته الحاجة إلى البحث عنه في جوف ناقته، ومن المعروف عند العرب أنها تحتمل العطش (18) يوماً. لكل هذا سمى العربي ناقته: (المال).
كما أتذكر وصف يوسف ياسين لرحلة جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرجمن آل سعود -يرحمه الله- من الرياض إلى مكة المكرمة من 12 ربيع الآخر إلى 7 جمادى الأولى 1343هـ في كتاب الرحلات الملكية الذي أصدرته دارة الملك عبدالعزيز بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية حيث كتب يوسف ياسين:
(نروي اليوم للقراء نظام اليوم بكامله من أيام رحلتنا، ليقيسوا عليه بقية الأيام التي قضيناها بين الرياض وأم القرى فنقول:
جاءت الساعة التاسعة والنصف من الليل، فنادى منادي الحي (توكلوا على الله) فما كنت تسمع بعد هذا إلا رغاء الإبل يبلغ عنان السماء، وماهي إلا نصف ساعة حتى تسير حملة المؤن وأمامها (العلم)).
وعندما أتذكر الإبل في حياتنا في المملكة وارتباطها الوثيق بتفاصيل حياة الآباء والأجداد وأتذكر حكايا أمي -يرحمها الله- عن جدي (هزاع بن علي) -يرحمه الله- عندما كان يرعى غنمه في عالية نجد، وفقد ذات يوم (قعوده شعيل) فسافر جنوباً يبحث عنه من حبه وتعلقه به حتى كاد يفقد حياته في تلك الرحلة الصعبة في صحراء نجد، كما أتذكر في حجرة الدرس عندما كنت معلماً لمادة العلوم قبل سنوات وأنا أشرح لأبنائي الطلاب موضوع (التكيف) في الصحراء وخير مثال عليه (الجمل) سيد البيد، لهذا لا أجد صعوبة في الكتابة عن الإبل، خصوصاً وقد جاءت تسمية عام 2024م بـ(عام الإبل)، استجابة طبيعية للمرحلة التاريخية التي تعيشها المملكة، كما جاءت للاحتفاء بالقيمة الثقافية النوعية التي تمثلها الإبل في حياة أبناء المملكة منذ فجر التاريخ وإلى اليوم، إذ كانت هي الوسيلة لاجتياز المسافات وقطع القفار وتخطي وحشة الصحراء، وبها استُفتحت القصائد، واختُتمت الحكايات، وتشكلت الصور الشاعرية، وضُربت الأمثال في رفقتها الطويلة، كما لعبت الإبل دوراً مهماً في توحيد المملكة في عهد الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن -يرحمه الله- الذي اعتمد ورجاله بعد الله عليها في تنقلهم، وغذائهم بأكل لحومها وشرب حليبها، ونقل الماء والعتاد والسلاح والرجال، حيث شاركت الإبل في جميع معاركه وحملاته لتوحيد المملكة، فكانت رايات التوحيد ترفرف على ظهورها.
الإبل والشعر العربي
لقد شكلت الإبل موضوعاً شعرياً أصيلاً في الشعر الجاهلي، فمثلت الناقة بمختلف جوانب حضورها المتجذر في الحياة العربية القديمة مجالاً للقول الشعري، فكانت كائناً موازياً للإنسان العربي، ابن الصحراء ومروضها، الذي وجد في الإبل مثاله وأسطورته، وواقعه ومآله، بكل ما في ذلك من إلهام وتحديات وحياة فريدة، فهي الرفيقة في الظعن والارتحال، والفخر والبطولة، وليس أدل على ذلك ما قاله طرفة بن العبد:
فمَن مُبلغٌ أحياءَ بكرِ ابنِ وائِلِ
بأَنَّ ابنَ عبدٍ راكبٌ غير راجِلِ
على ناقةٍ لم يركبِ الفحلُ ظهرَها
مُشذَّبة أطرافُها بالمَناجِلِ
وعلى الإبل ترحل المعشوقة، وعليها يلحق العاشق ركب محبوبته وأهلها، وبها قد تكرم الحسناوات، كما فعل امرؤ القيس بن حجر:
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي
فواعجباً من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمقس المفتّلِ
إن حضور الإبل في ذاكرة المجتمع العربي يرسم لنا كائناً أسطورياً، ألهم الشاعر العربي الكثير من الموضوعات والصور الفنية العميقة.
الإبل في الثقافة السعودية المعاصرة
ولا شك أن اهتمام ملوك المملكة بالإبل وباقتناء النوادر منها علامة فارقة في ثقافة المجتمع السعودي، وهنا تذكرت (العصافير) إبل ملك الحيرة النعمان بن المنذر، و(الريمات) إبل المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز يرحمه الله، و(الشرف) نخبة الإبل في المملكة التي يملكها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله.
الإبل والفن السعودي
ظلت الإبل حاضرة في الفنون السعودية المعاصرة، في الشعر والفن التشكيلي والدراما، وتحتوي الذاكرة الشعبية السعودية على كثير من الأغاني التي تطرقت للإبل، كأغنية المطرب الراحل مطلق الذيابي: (يا الله أنا طالبك حمرا هوى بالي.. لاروح الجيش طفاح جنايبها)، وظل هذا الحضور حياً عبر الأزمنة المختلفة، وهذا ما نجده أخيراً في الفيلم السعودي (ناقة) للمخرج مشعل الجاسر، الذي عُرض في مهرجان تورونتو السينمائي، وفي مهرجان البحر الأحمر السينمائي، واستطاع تصدر قائمة الأفلام الأعلى مشاهدة على منصة (نتفليكس).
إن الأعمال الأدبية والفنية والأعمال المرتبطة بإبراز الفلكلور والموروث الثقافي السعودي لا تخلو من الإشارة إلى الإبل وتوظيفها في النصوص الإبداعية، والتعبير عنها من خلال الرسم والصور الفوتوغرافية، في مثل أبيات الشاعر الراحل محمد الثبيتي -يرحمه الله-:
(يا حَادي العيسِ في تِرحالِكَ الأملُ)
يا حادي العيسِ قد نفنى وقد نَصِلُ
قد يحتوينا سُهيل أو يرافقنا
وقد يمدُّ لنا أبعادُهُ زُحَلُ
قد نحضن الفجرَ أو نحظى بقبلتهِ
وقد تجفّ على أفواهنا القُبَلُ
إذا انتهينا على الأيام حجّتنا
وإن وصلنا يغنّي الرَّحْلُ والجمَلُ
يا حادي العيس فلنرحل هلمّ بنا
فالحائرون كثير، قَبْلنَا رحلُوا
الأهمية الاقتصادية للإبل
تبرز الأهمية الاقتصادية للإبل قديماً في القوافل التجارية، لقدرتها العالية على التحمل في قطع المسافات الطويلة والتعرف على الطرق ليلاً وفي أعماق الصحراء، إضافة إلى قدرتها على حمل السلع والبضائع في ظل التضاريس البيئية الخاصة لشبه الجزيرة العربية، وإلى جانب استخدامها في السفر كان لها دور في عملية الزراعة خصوصاً في أنشطة حرث الحقول. كما يُستفاد من حليب الإبل باعتباره مصدراً مهماً للغذاء، خصوصاً في المناطق التي تندر فيها المياه، بالإضافة إلى تناول لحومها مما يجعلها مصدراً قيماً للبروتين. وحالياً ازدادت الاستفادة من الإبل عن طريق الجلود والألياف حيث تُستخدم جلود الجمال في إنتاج المنتجات الجلدية، بما في ذلك الحقائب والأحذية والملابس، لما تمتاز به من متانة ومقاومة للظروف البيئية القاسية. كما يتم استخدام شعر الإبل في صناعة المنسوجات والملابس، حيث يتم غزل الطبقة السفلية الناعمة لبعض سلالات الإبل في خيوط ونسجها في الأقمشة.
من الصحارى إلى عالم الأزياء
في السنوات الأخيرة دخلت الإبل عالم الأزياء السعودي، خصوصاً بعد إقرار (يوم التأسيس) وهو اليوم الذي يحتفل فيه السعوديون بذكرى قيام الدولة السعودية الموافق 22 فبراير (شباط)، ويحرصون على ارتداء الأزياء التراثية أو ما يرمز للثقافة السعودية، لذلك يحرص المصممون وأصحاب المتاجر على استلهام أزياء حديثة مطعمة بالرموز الثقافية لتصبح مناسبة لأي يوم في السنة، كونها جمعت بين الحداثة وإبراز الهوية في الوقت ذاته.
وأخيرا
المملكة مازالت تعمل على تأصيل المكانة الراسخة للإبل، وتعزيز حضورها محلياً ودولياً، باعتبارها موروثاً ثقافياً أصيلاً، ومكوناً أساسياً في البناء الحضاري من خلال: إحياء حضور الإبل بوصفها أيقونة ثقافية تمثّل الهوية السعودية وتعكس قيمها الأصيلة، والتعريف بقيمتها الثقافية، والتاريخية، والحضارية.

ذو صلة