مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الإبل والمستشرقون

للإبل أهميتها ورمزيتها العريقة في صحرائنا العربية منذ نشأة هذه الأرض، فهي الرمز الصحراوي الأصيل، فلا يرد خبر من أخبار العرب في (أدبيات الغربيين) إلا ونجد الإبل حاضرة في تلك النصوص، حيث استأنسها الإنسان الأول لتحملها المشاق والمسافات الطويلة دون ملل أو كلل، سواء في الارتحالات أو الحروب أو سبل التجارة الطويلة التي تربط الشرق بالغرب.
كان للإبل مسارات تجارية مهمة في العصور الأولى وما يجلب عليها من التوابل والذهب والعاج والفضة والحلي، فهي العنصر الأساسي في قطع تلك المسافات فكان لها إسهامات عظيمة بتطوير الحضارات المترامية على شريط المحيط الهندي وامتداداً لمدائن البحر الأحمر والمتوسط وما ورا النهرين، لذا كانت هي العنصر الأساسي من بعد إنسان ذلك العصر على الرغم من العلاقة الأزلية.
جاب المسلمون والرحالة العرب أصقاع المعمورة على ظهور الإبل وهذا ما أسهم بما قدموا من فتوحات وعلوم مهمة بفك رموز ذلك العالم المظلم.
وردت أخبار الإبل في أشعار العرب الأولين التي تصفها وتصف قيمتها ومكانتها ومدى تحملها وصبرها، لذا نجد أن الإبل دائماً حاضرة في أشهر قصائد شعراء الجاهلية حيث يدللها الشعراء ويعتزون في رفعتها وقيمتها العريقة، فلا يقف الأمر إلى ذلك الحد بل نراها أيضاً في نصوص (الرحالة الغربيين) وتبدو أكثر الثناءات على (الراحلة) أي الذلول أو الناقة لقوتها وتحملها مشقة العبور والارتحال في عمق الصحراء العربية لإنجاز المهمات الاستكشافية الطويلة.
من أشهر هؤلاء الرحالة الذين توغلوا على ظهور الإبل في الجزيرة العربية: كارستن نيبور، وجورج سادلير، وأوغست فالين وبالجريف، وتشارلز دوتي، والليدي آن بلانت، وهوبر ويوليس، وشكسبير، وموزيل جيرترود بيل، ولورنس، وغيرهم الذين تناولوا من خلال نصوصهم أصالة الجمال العربية، والبعض من هؤلاء تعجب من قوتها وذكائها وتحملها المشاق.
ولم يكتف هؤلاء المستشرقون بتسجيل إعجابهم بهذه المخلوقات فقط بل أصبحت غالب أغلفة أعمالهم وعناوينهم الأساسية لا تخلو من صورة الجمل أو الناقة. يقول المستشرق تشارلز دوتي حينما زار الجزيرة العربية عام 1877م: (إن الإبل العربية لديها مهارة عجيبة وتمتاز في قطع المسافات الطويلة بسرعة فائقة). وكذلك يقول: إن الإبل العمانية تجد تقديراً خاصاً يرفع أثمانها إلى ثلاثة أضعاف أثمان الإبل الأخرى، وهذا ما ساعده في استكشاف أهم الآثار في تيماء وخيبر.
وكان أيضاً لوليام شكسبير ناقة جميلة أنيقة أطلق عليها اسم (ظبية) وارتحل عليها من الكويت إلى أواسط نجد إلى أن وصل إلى أقصى شمال الجزيرة العربية. وكذلك الإنجليزية الليدي ديغبي التي عشقت الإبل وأشرفت على رعايتها ولها العديد من الأبيات حسب ما أشار إليه الباحث قاسم الرويس ونسب إليها هذه الأبيات:
يا عين ريم جافله من زراجه
ومجفله ريم العطاطيب بنواج
وأبدت المستشرقة البريطانية الليدي آن بلنت وهي المهتمة في سلالات الخيل العربية الأصيلة إعجاباً كبيراً بأصالة الإبل الشرارية الفذة، وكذلك المعتمد البريطاني ديكسون حيث صنف الإبل إلى عدة سلالات، وأشاد في أصالتها وكتب تفصيلاً دقيقاً عن ألوانها وأنواعها وأوسمتها في دقة متناهية، وصنف أيضاً الجيد منها والرديء.
اهتم هؤلاء المستشرقون كثيراً بدراسة أعراق وسلالات الخيل العربية وسلالات الإبل العربية بأنواعها، واستحدثوا من تحمل بأسها الكثير من المهام لخدمة أعمالهم ومهماتهم العلمية والعملية والاستكشافية في زمن كانت الإبل هي الوسيلة الوحيدة التي يخترقون الآفاق على ظهورها.
والأمثلة كثيرة من تلك الإعجابات ولكن ابن الصحراء العربية كان مختلفاً جداً من خلال الأشعار التي تؤصل أصالة الجمال العربية، كمثال هذه الأبيات للشاعر محدى الهبداني حينما وصف ذلوله:
يا راكبٍ من عندنا فوق عنسي
‏سحوان قطاع الفيافي عماني
‏عنسٍ سبرسٍ بالسواد الوغطسي!
‏قطاع دوٍ هوذلي سوسحاني
ربما هذا الوصف من أغرب الأوصاف وكأن الشاعر يرمز إلى قوة ذلوله مفتخراً حيث تجرأ الشاعر بتبيان قيمة ذلوله.. وهنا أيضاً وصف آخر ومختلف عن ما سبقه للفارس تركي بن حميد واصفاً ذلوله:
يا راكب اللي ما يداني الصفيري
‏هميلع من نقوة الهجن سرساح
‏أمه (نعامة) وضرّبوها بعيري
‏وجاء مشبهاني على خف وجناح
ومن الطرائف استعجاب مجايله ومنافسه محمد بن هادي بن قرملة، حيث يتساءل عن هذه الرموز التي يرمز إليها ابن حميد وأصر على مجاراته متسائلاً:
يا تركي بن حميد وش ذا البعيري؟
‏ما تجلبونه كان تبغون الأرباح
‏دامه بعير وله جناح ويطيري
‏أنا أسألك وشلون راعيه ما طاح
فكل هذه الأبيات تبين أهمية الإبل لدى أصحابها إلا أن هنا يتفرد شاعر آخر وهو صاحب المعلقة الشعرية الشهيرة (الشيخة) محمد الدسم، واصفاً ناقته بوصف أكثر حماسة من مجايليه:
الله على الهوجا طويلة مناكيب
‏حمرا ردوم وجالس مرجحانه
‏مرباعها من خشم لاهه وتغريب
‏في سهلة متخالف ديدحانه
‏هوجا ليا حدوا عن الما بتجنيب
‏تنحر لها عد خفي البيانه
وهذه الأشعار متماثلة أيضاً مع أسلافهم الشعراء الأولين كطرفة بن العبد والشنفرى وعروة ابن الورد وأبي الطيب المتنبي الذين أبدعوا أيضاً في أوصاف الإبل. وتعد قصائد الشاعر خلف أبو زويد الأميز والأكثر تأثيراً وهو يعد من الشعراء المتأخرين حيث وصف ناقته بوصف مختلف:
حمرا على السندا عديم تهدّي
‏عليه سنامٍ شاتيٍ عقب تقييظ
‏حمرا عثافر منوة اللي يمدي
‏حزوبره، منوة مقضي الأغاريض
‏مهجاج عند المزهبة لو تغدي
‏ما تلهدك بالرغرغه والتفاضيض
وكذلك قائل هذه الأبيات الجميلة التي يصور فيها ناقته تصويراً دقيقاً ويميزها بأجمل وصف شعري حيث يقول:
يا راكب اللي كنها سلوع الذيب
حمرا ولا عم الحوير غذي به
حمرا وتكسر من عياها المصاليب
حمرا وتوه في جهلها منيبه
فجميع هذه الأبيات ترمز إلى جمالية الإبل وندرتها وأهميتها الكبيرة لدى أصحابها في تلك الأزمنة فلا غرابة أن يصف خلف أبو زويد ناقته بهذا الوصف حيث تميز عن سواه بوصف الإبل واهتم بتبيان مزاياها. وكذلك قول شاعر آخر إذ تعتبر هذه الأبيات سيمفونية شعرية:
يااهل الهجن خذوا بهن شله
واسروا الليل وأطراف الأيامي
كل شي طراته على حله
بدلوا سير الانضا بدرهامي
لا لفيت العرب بيته ادله
في هوى القلب يمشن الأقدامي
يبقى القول إن صحراء الجزيرة العربية أي المملكة العربية السعودية هي الحاضنة الكبرى لأجود أنواع الإبل بحسب نقوشها ورسوماتها الصخرية التي مضى عليها آلاف الأعوام ومازالت إلى هذه الأزمنة بمكانتها وقيمتها ورمزيتها العربية الأصيلة.

ذو صلة