مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الصفقة

تهاوى جسده الضئيل فوق رخام أرضية القاعة الفسيحة، بعد أن طلبت منه موظفة الاستقبال بطاقة الهوية، لتنهي بقية الإجراءات الإدارية، قبل إجراء العملية. دس يده في جوف جيب داخلي عند صدره، بحثاً عن محفظة نقوده، فغاصت الأصابع في فراغ سحيق شل كيانه.
من رقدته فوق السرير الأبيض، رأى ابتسامة مقيتة تعلو محياً كالحاً. تمنى لو طاوعته خلاياه - لتوها- حتى يبصق عليه. ألقى نظرة تفحص على جسم منهك خذله، وقد حاصرته أنابيب وأجهزة إلكترونية، ووجوه غربية، كان يسمع ولا يسمع ما تقول.
غامت الرؤية وغاص في غيبوبة إرادية، وفي أذنيه يتردد زئير ذي الوجه الكالح، فتفاقمت كراهيته له، وهو يطالب بأمواله، بعد أن أعلن في اللحظة الأخيرة عن التراجع، ثم قبل مكرهاً، ذليلاً، بعد أن هدده صاحب البيت بأن يشرد أسرته.
استسلم الجسم المغرر به لخدر طاغ، وذاب في ضباب الاستحضار.
في تلك الأمسية، وجم، وهو يرى صاحب الوجه الكالح ينتصب أمامه مثل قدر بغيض. غمغم في سره: (هل جاء يطالب بالإيجار، ونحن في منتصف الشهر؟!).
ساد صمت ثلجي برهة، بدت كأنها دهر. تذكر عبارة الرجل المعتادة، وهو يخيره بين دفع الإيجار أو إخلاء البيت. انتشله من شروده تساؤله، بنبرة وديعة: (ألن تدعوني لشرب الشاي معك؟!)، وقد أشرقت ملامحه المتجهمة دوماً، على غير العادة.
***
من دون مقدمات، أخبره صاحب البيت أن عمر والده بين يديه، وهو يلعن السرطان، الذي نهش كليته المتبقية، بعد استئصال الأولى، انتابته شهامة طارئة تليق بفارس نبيل، ولم يطلب مهلة للتفكير أو استشارة أسرته.
شعر بامتنان للموقف، الذي شرخ كبرياء صاحب البيت، ولأول مرة، لن يتحدث - بانكسار ذليل- عن ديون متراكمة وأدت إنسانيته، ولن يضطر إلى التواري في ركن، وهو يسمع الزوجة تقسم له بأنه غير موجود في البيت، ثم تدمع عيناه بعد هذا المشهد، وهو يهمس لنفسه: (يبدو أنني الوحيد، الذي دفع ثمن صراع قوى عالمية متوحشة. ما ذنبي إذا أفلست الشركات، بسبب جائحة كوفيد؟!).
***
شجعه بابتسامة، وهو يرنو إلى يده المترددة، مشيراً إلى أن الورقة مجرد توثيق ضماناً لحقوق الجميع، تحت مسمى (قرض على وجه الإحسان)، وإمعاناً في الكرم، تنازل له عن مستحقاته القديمة، وهو يؤكد أنه فور استلام المبلغ من البنك، سيتوجهان إلى غرفة العمليات مباشرة: (إنه أكبر جراح في البلد، وقته ثمين جداً، وبصعوبة، حددنا معه هذا الموعد، إذا فاتنا. (لحظة صمت ثلجي) فلن يكون لأي شيء - بعد ذلك- طعم!).
حاول الرجل أن يعد رزمة النقود، وقد فشل في أن يخفي فرحته الطفولية، الطارئة، وهو يمسك -لأول وهلة- مبلغاً كبيراً، أشار صاحب البيت إلى ساعة يده، فدس الرزمة في جيب داخلي، على عجل.
غادرا المصرف ظهراً. انتبه الرجل، الذي سيتبرع بكليته إلى أن البناية غير متناسقة مع بيوت حي شبه شعبي. سارا على الرصيف متجهين إلى السيارة، المركونة بعيداً عن المبنى الدخيل.
اصطدم عابر سبيل بالرجل. اعتذر الغريب، ثم فوجئ بأنه يعرف اسمه الكامل، قريته، عمله السابق وكل شيء: (ألم تعرفني؟!)، كان يطرح أسئلة سريعة ويجيب عنها، دون أن يمنحه فرصة للتذكر، التفكير أو التدقيق في ملامح الغريب، التي أخفاها خلف كمامة، ارتمى عليه، أسرف في احتضانه، بينما أصابعه المدرية تنجز المهمة ببراعة، وصاحب البيت يقيس المسافات بعينيه، ويتأكد من عدم وجود كاميرات المراقبة في الجوار.

ذو صلة