مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

the Boy and the heron سرد بصري كرتوني يعيدنا إلى عمق السلالة الإنسانية

ما زلنا نكتب قصتنا، ونصنع من الأحداث نهايات تعيد كلاً منا إلى طريق مشى فيه وهو نطفة تبحث عن ولادة جديدة، وما حجر الفلاسفة في فيلم (الفتى ومالك الحزين) (the Boy and the heron) إلا قصصنا عبر الزمن التي تعيد نفسها، فالموت والحياة هما تتابع لمسيرة إنسانية فيها الفرح والحزن، وفيها الضعف والقوة. والغريب أكثر هو عدالة المأساة، حين تنتج عنها شخصية قوية تسعى للحكمة والمعرفة. إذ تبدو المقاربات في قصة الفتى ومالك الحزين بفلسفتها نوعاً من فتح نافذة على معنى الصراعات والحروب، فمصير كل شخص مرتبط بمدى صبره وقوته للسير في طريق الحياة، فالأبواب التي فتحها (ماهيتو ماكي) الفتى الذي لم يبلغ الحلم؛ ما هي إلا الخروج من نفق الأمومة نحو العالم الأكثر اتساعاً، والذي يصعب فهمه ما لم نتخيل عالم الأجداد أو عالم من سبقونا إلى الحياة والموت معاً. لنتطور وفق السلالة الإنسانية التي تصنع الخير والشر معاً، وتحارب الشر منفرداً. رغم ذلك يحاول والده (شويتشي) أن يبعده عن الخطر، بعد وفاة والدته بطريقة مأساوية في حريق اندلع بالمشفى الذي تعمل فيه. فالحزن أصابه بهلوسات هي ذهنية بامتياز، ربطها بالكآبة التي تصيبنا عند فقداننا لمن نحبهم ويفارقوننا بقسوة وألم، يجعلنا ضمن بؤس الإنسانية المجهولة الأسباب، لأننا لا نمتلك مفاتيح الحكمة. فكل منا يتمسك بسلالته، ويحاول المحافظة عليها، لتكون هي الحاكمة المسيطرة، كما هي الحال مع عالم الببغاوات العملاقة والملونة بألوان زاهية. إذ وحده الإنسان هو القادر على التوازن في محيط يعيش فيه بتتابع، أي عبر سلالته ممن هم قبله وبعده، بمعنى أجداده وأحفاده. فالوسط هو الحاضر الذي نتخبط فيه بين الخير والشر. والموت هو الشيء الذي يجب أن نقبل به، فهو جزء من الحياة التي دخلناها عبر ولادة خسرنا فيها الأم أو الأب أو حتى الأسرة بكاملها. لكن الوعي هو الخروج من قوقعة ذهنية تجعلنا نرى أفعال الآباء، وما يتوجب علينا فعله بعد ذلك. فهل حكمة الفتى في هذا الفيلم هي حكمة حجر الفلاسفة، والإنسان الذي يتفاعل مع الحياة بقبول التقلبات النفسية والاجتماعية والسياسية؟ وهل المشهد البصري في هذا الفيلم هو تمثيلات ذهنية دقيقة من حيث التلميح الذهني للسلوك الإنساني؟ أم أن لكل حرب تقع في العالم ذيولها النفسية على أجيالنا الذين يخسرون ما خسره الأجداد من فقدان لتوازن جعلهم يرحلون ويتركون الأبناء وحدهم في عالم غريب يصعب فهمه؟ وهل التأرجح بين مفاهيم الخير والشر والأسود والأبيض والموت والحياة، هو تناقضات لمأساة إنسانية عالية، بينما هي سر أسرار الوجود وفق نظام البقاء والفناء؟
استطاعت موسيقى (جو هيسايتشي) التأثير حسياً على المشهد البصري، لنستكشف قوة المشهد السمعي عندما تتشكل الصور في المخيلة تباعاً، وبهدوء واظب عليه المخرج للتأثير على حس المشاهد، لفهم مسيرة الحياة بالكامل، مع بعض التلميحات عن تواريخ تجعل البعض يبحث عن ماهيتها. لتكوين صورة أكبر عن أسباب الفقدان لوالدته حتى صار عدوانياً على نفسه بالدرجة الأولى. وليتخلص من الأذى النفسي الذي أصابه كان لا بد من الدخول في قلب هذا الصراع أو الألم الداخلي الذي يجعلنا نكتوي ونبحث عن نافذة أو باب نرى منها ما يتشابه مع أحداث حيواتنا لنتساءل كيف نعيش؟ وهذا ما يحاول الأهل أن يقدموه لنا من خلال سيرة حياتهم، خوفاً على الأبناء من الوقوع في الأخطاء. لكن الخطأ يقود إلى النضج، عندما تكون الحكمة هي البناء الحقيقي للإنسان، وهذا ما رأيناه في نهاية الفيلم مع الشيخ الحكيم الجالس تحت حجر الفلاسفة، مشيراً إلى أن كل إنسان حجره في يده، ويستطيع من خلاله فهم قيمة الدخول إلى الحياة والخروج منها بوعي يؤدي إلى العبور من الثقب الذي يبتلع كل شيء، وهو عبور زمكاني ببغائي يتكرر مع الأشخاص كافة، ولكن وحدهم من تميزهم الأحداث يفهمون قواعد الحياة الفيزيائية والتي تمثلت من خلال الأحجار التي كانت أمام الرجل الحكيم، الذي أبقى إجاباته غامضة لصبي لم يتقبل فقدان أمه في الحرب. فهل استطاع (هاياو ميازاكي) ربط ما هو بصري مع السمعي والذهني ببراعة جمالية أعادتني إلى قصة الأمير الصغير، ولكن بحكمة عبقرية نلمس من خلالها عناصر الحياة في السلالات البشرية؟ وهل نحن ضمن حقيقة حياتية جعلتنا في عبور من حياة إلى حياة؟
سرد بصري كرتوني يعيدنا إلى عمق السلالة الإنسانية، بفهم سينمائي عميق استثنائياً، وضمن القدرة على فهم الأكوان المتعددة التي دخلها بطل الفيلم زمانياً ومكانياً، باحثاً عن أجوبة وجودية تتعلق بالموت والحياة، وسبب وجوده الأساسي في هذه المغامرة التي ولد فيها فاقداً للأم، هو نسج لعقدة الفقدان أو خسارة من نحب في الحياة بمواجهة الأسباب، وفهم الجوهر العاطفي المصاحب لما نشعر به شخصياً ولا يمكن أن يفهمه أحد سوانا. فالسرد البصري الراسخ في التحريك الهادئ والمذيل بسلوكيات نواجهه مع ماهيتو بتعاطف نفهم من خلاله أسباب ما يحدث في الحياة من مسببات للألم والفرح معاً، وما نراه خسارة في لحظة ما؛ هو جوهر المعنى الحياتي في مسيرة نستكملها ونحن تساءل لماذا نعيش؟ وهل مالك الحزين المتلون هو رمزية متاهة الصدق والكذب والاحتيال والبعد عن المسار الحقيقي للإنسان الذي يسعى لبناء مملكة خالية من الشر؟ أم أن صنع عالم من الثروة والسلام والجمال يستحيل في هذا العالم؟ وهل من عوالم تخلو من الشر كما قال الرجل الحكيم للفتى: (قم ببناء برجك الخاص، مملكة تخلو من الشر)؟ أم هو يقصد الذات الإنسانية وما ينبت فيها من سلام وجمال؟
يبرز الاهتمام الاجتماعي عند الناشئة الموجه لجيل جديد في كل مرة عبر مسيرة الحياة المتجذرة وراثياً عبر الجينات التي لمح لها كاتب الفيلم بواسطة حجر الفلاسفة في مشهد تتجدد فيه قضية الحرب والسلام، أو الصراع المستمر في الحياة بين القوى الوجودية المختلفة. حيث يتم التعبير عن الاشتباه بالمسبب لأحداث غامضة لا ندرك كنهها، ونتخذ بعدها بعض الأحكام الخاطئة بشأن ما نجهله، وما رحلته التي يبحث فيها عن الحقيقة المخفية وراء مالك الحزين الذي يظن أنه سبب في كل ما حدث له؛ إلا الرحلة المعرفية للإنسان التي يكتشف فيها الذات قبل أن يكتشف الآخرين، وبحكمة ووعي. ورغم ثقل العنصر التخيلي فيها إلا أنها تعصف بالذهن ليفتش عن أجوبة لتساؤلات صامته يطرحها من خلال حركة مالك الحزين وتصرفاته الغامضة مع الكائنات التي ترمز بعمق إلى التنوع في الحياة، كما هو الحال مع أرواح الأطفال حديثي الولادة التي تشبه الفقاعات وتتطاير بانسيابية بصرية كأنها قطرة ماء في دورة الحياة الطبيعية عبر صعودها الموسيقي، في حين أن الببغاوات العملاقة المزعجة بألوانها الكثيرة رغم جمالها البصري إلا أنها تزعج العين وفي الوقت نفسه ترمز إلى الشر أو الأعداء الذين ننبهر بهم في الحياة، ولا ندرك مدى الشر داخلهم، كما افتتن بهم (ماهيتو) الذي فقد والدته وترك ذلك أثراً كبيراً في نفسه. والسؤال الأهم الذي جاوب عنه الفيلم بحكمة هو: لماذا يفقد الإنسان إنسانا آخر؟ أو لماذا الموت يترك علامة سؤال محيرة في نفس الطفل؟ وهل الروابط العائلية الحقيقية القوية هي بناء للنفس ولشخصية الأولاد الذين يرتبطون بالأهل ارتباطاً شديداً؟
الحكمة لا تولد إلا عندما نكتشف المغزى من الأحداث التي تصيبنا بصدمات يتولد عنها الكثير من الأسئلة، إذ يتضح أن التعقيد الفكري الذي يولده مالك الحزين عند بطل الفيلم هو عصف وجودي لا بد من الخوض فيه. ليبقى الإنسان باحثاً عن الحكمة التي تزيد من الوعي في فيلم وجهه الكاتب للطفل وأحاسيسه وللبالغ معاً. ليستعرض للمشاهد الأحاسيس التي تنتاب الشخص الناشئ، ويعالج حيرته بأسلوب سردي بصري يُشيّد من خلال المعنى الوجودي لكل كائن على الأرض وسر تكامله، لتكون عناصر الحياة هي القوة في البحث عن أجوبة تُشكل هواجس تعكس عدة حالات يصعب معرفة كنهها ما لم ندخل في هذه المرحلة التي تؤدي إلى الاتزان النفسي فيما بعد. فلكلٍّ دوره الذي خُلق من أجله، بحساب تكلله الحكمة وقوة الوعي عند الإنسان. وما السؤال عن الموت، أو لماذا يموت الأطفال قبل ولادتهم وحديثي الولادة؛ إلا لإبراز قوة التفاعل في الحياة بين الضعيف والقوي والشر والخير والشيخ والشاب والأم والأب، أو بمعنى آخر الذكر والأنثى. فهل ولدت كل هذه الأفكار عند (ميازاكي) بمأساة عام 1943 أم أنه يقدم فلسفة حياتية للأجيال كافة من خلال هذا السرد البصري الكرتوني؟ وهل الضوضاء البصرية وسرعة الحركة في مشهد النيران وهو يركض نحو المستشفى تمثل قوة الحدث عند فقدان من نحب؟ أم أننا في رحلة الحياة لنا دورنا المُخصص والذي لا يمكن أن نتخطاه ما لم نمشيه بفهم وحكمة؟

ذو صلة