مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

نصر بن محمد الخبز أرزي الشاعر الأمي الفصيح

إن الشعر هو الكلام المسموع الذي يتفاعل معه الوجدان وتطرب له الآذان وترتعش فيه موسيقى الجسد، وصف (إدونيس) الشعر بأنه: (الكلام الذي يتجاوز الكلام، وما يعجز عن نقله الكلام)، وعلى الرغم من مكانة الشعر المعروفة للعامة قبل الخاصة لفت انتباهي أن هناك ظاهرة مختلفة للشعراء وهي أشعار الشعراء الأميين في العصر العباسي، وطرأ في ذهني سؤال: ما مبلغ صلة الأمية بالشعر؟
فوجدت أن الشعر يتداول بالرواية والسمع أكثر من التدوين، فتقاس الشاعرية بمدى تأثيرها في نفوس سامعيها، مع مطابقتها لما في نفس السامع، وممن حظوا بهذه السمة في ذلك الوقت الشاعر نصر بن محمد الخبز أرزي (317هـ/ 939م).
هو نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري أبو القاسم، شاعر غزل ووصف وحكم وأمثال، من أهل البصرة، عاصر خلافة المتقي لله بن المقتدر، ذاع صيته في زمن هذا الخليفة، عرف بـ(الخبز أرزي)، نظراً لعمله في خبز الأرز بمربد البصرة، كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة ولكن أثناء عمله ينشد أشعاره في الغزل، جذب الناس من حوله لسماعه والتعجب من حاله، انتشرت أشعاره لسهولتها وقربها من نفوس سامعيها، حتى ذاعت وتنوقلت خارج بلده، لما فيها من رقة الغزل والوصف وصفاء اللغة، مما جعل الكثير من مؤلفي كتب الأدب والتاريخ أن يذكروا أشعاره وإيرادها أثناء التعرض لترجمته.
كما دفع من ينتابون دكانه وسماعه لجمع أشعاره في ديوان يوجد منه نسخة في معهد المخطوطات بالجامعة العربية.
إن الخبز أرزي كان من بيئة شعبية بالكامل وبجانب حرفته حظي بمكانة في بلده حتى أصبح يردد الشباب والصبية أشعاره، وعندما قدم بغداد استقبله أدباؤها وشبابها استقبالاً حسناً.
كان من معاصريه آنذاك: الوزير الشاعر الخطاط ابن مقلة، والشاعر الدلال الوأواء الدمشقي، وأبو الحسن ابن لنكك الذي كان ينتاب دكانه ليسمع شعره، وذات يوم حضر أبو الحسن بن لنكك عند أبي الفتح نصر بن أحمد الخبز أرزي فبرخه ببخور غير طائل فقال:
تبصر في فؤادي فضل حب
يفوق به على كل الصحاب
أتيناه فبخرنا بشيء
من السقف المدخن بالتهاب
فقمت مبادراً وحسبت نصراً
يريد بذاك طردي أو غيابي
فقال: متى أراك أبا حسين؟
فقلت له: إذا اتسخت ثيابي
تضاربت الأقوال والروايات حول سبب موته، يقال بسبب هجائه لصاحب البريد فأغرقه، والبعض الآخر يقول إنه هرب من البصرة، ليلحق بأبي طاهر بن سليمان ملك البحرين. ولكن تُستبعد هاتان الروايتان فلم يشع عنه شعر الهجاء، بل أنشد شعر الغزل والحكمة والفضائل، وأياً كان فما يهمنا هنا هو شعره الذي جذب من حوله وذاع صيته خارج حدود بلده وجمع حوله الأدباء والشباب الذين قاموا بجمعه وتدوينه، وعلى أي اختلف في تاريخ وفاته الكثير منهم من يقول إنه 317هـ في كتاب الوافي بالوفيات للصفدي، وفي ديوانه يقول الدكتور مصطفى حسين عناية إنه توفي 330هـ، مخلفاً ولداً اسمه طاهر الخبز أرزي.
بعض من أبياته في حمد الصمت وذم المنطق: (الطويل)
لسان الفتى حتفٌ له حين يجهل
وكل امرئ ما بين فكيه مقتل
وكم فاتح أبواب شر لنفسه
إذا لم يكن قفلٌ على فيه مقفل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره
فذاك لسانٌ بالبلاء موكل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلماً
فدبر وميز ما تقول وتفعل
ويقول في البغي والحسد: (البسيط)
كأنما الدهر قد أغرى بنا حسدا
ونعمة الله مقرونٌ بها الحسد
وقوله في الكبر والعجب والتيه: (الطويل)
ومن أمن الآفات عجباً برأيه
أحاطت به الآفات من حيث يجهل
وفي الوداع: (السريع)
ودعت قلبي يوم ودعتهم
وقلت يا قلبي عليك السلام
وقلت للنوم انصرف راشداً
فإن عيني بعدهم لا تنام
محرمٌ يا عين أن ترقدي
وليس في العالم نومٌ حرام
أما عن شعره في الغزل: (الكامل)
أنضى الهوى جسدي وبدلني به
جسداً تكون من هوًى متجسد
ما زال إيجاد الهوى عدمي إلى
أن صرت لو أعدمته لم أوجد
وفي البشارة بورود الحبيب: (الكامل)
ومبشري بقدوم من
أهواه لا زال وهو مبشرٌ بمناه
عندي له بشرى ولو ملكته
روحي وقلبي قل عن بشراه
وعن ذكر الحبيب في الصلاة: (الوافر)
ألفت هواك حتى صرت أهذي
بذكرك في الركوع وفي السجود
وفي افتقاد القلب: (الكامل)
لو كان لي قلبان عشت بواحد
وأفردت قلباً في هواك يعذب
ولي ألف وجه قد عرفت مكانه
ولكن بلا قلب إلى أين أذهب؟
وهما من أشهر الأبيات له في الغزل، تم تداولهما في الكثير من الكتب التي تتكلم عن الحب والعشق، حتى أصبح المراهقون يتغنون بهما، وهذا إن دل فيدل على حسن وبديع تعبيره عن مكنونات الذوات العاشقة بألفاظ رائقة رغم أميته وعدم معرفته للقراءة والكتابة.
كما نجد الثعالبي في اليتيمة يقول إنه كان على وشك إهماله وترك أشعاره لسفسفة كلامه من وجهة نظره، لولا أنه وجد من معاصريه من اهتم بجمع ديوانه، فرأى أن يضمن كتابه (اليتيمة) بعض أشعاره، ومنها:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما
بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
أتى زائراً من غير وعد وقال لي
أصونك عن تعليق قلبك بالوعد
فما زال كأس الوصل بيني وبينه
يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطورا على تقبيل نرجس ناظر
وطورا على تعضيض تفاحة الخد
كم أناس وفوا لنا حين غابوا
وأناس جفوا وهم حضار
عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا
ثم مالوا وجاوروا ثم جاروا
لا تلمهم على التجني فلو لم
يتجنوا لم يحسن الاعتذار
وعندما نتأمل الأبيات نجدها زاخرة بالمحسنات البديعية التي تدل على أنه كان يفقه صنعة الشعر وصناعة البديعيين فيها فقهاً حسناً. فوفوا تقابل جفوا، وغابوا تقابل حضار، فبين كل كلمتين متعاقبتين في البيت الثاني جناس وطباق محكمان، وحسن التعليل واضح في البيت الأخير، فقد تتسم كلماته بالعذوبة الحلوة الخفيفة على السمع واللسان.
حتى في عتابه عذب سلس إذ قال معاتباً صديقه أبا عيسى: (الكامل)
أعليك أعتب أم على الأيام؟
بدأت، وكنت مؤكداً بتمام
قطع التواصل قربنا بتواعد
وقطعت أنت تواصل الأقلام
هلا ألفت إذ الزمان مشتتٌ
والإلف للأرواح لا الأجسام
عذراً أبا عيسى فما لك في
القلا عذرٌ، وذا علمٌ بلا إعلام
من غابت الأخبار عنه ودينه
دين الإمامة قال بالأوهام
خذ من فرائدك الذي أعطيتني
فالدر درك والنظام نظامي
حكمٌ معانيها معانيك التي
فصلتها لي، والكلام كلامي
إن الغزل والكلام العذب يستأثرا بشعر الخبز أرزي ويحجب بقية الأغراض التي أنشدها، لذلك أختتم بهذين البيتين له عن رؤية حبيبه للقمر: (الوافر)
رأت قمر السماء فذكرتني
ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظرٌ قمراً، ولكن
رأيت بعينها ورأت بعيني

ذو صلة