مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الأستاذ النادر محمود توفيق

بعد أن أكمل صاحبنا رسالته في مرحلة الماجستير، وآن أوان تعيين مناقشيه فيها وكان ذلك في الربع الأخير من عام 1419هـ والربع الأول من عام 1999م استشرف بلهفة وشوق وقليل صبر أنْ يُعيَّنا، وكان طُلَعةً إلى أستاذين كبيرين يقرآن كلّ حرف فيها، ويقوّمان ويضيفان ويبنيان، ليكونا مع أستاذه الهمام ومشرفه الأوّل وشيخه العزيز الأستاذ الدكتور محمد بن علي الصامل أركان تاج المناقشة، ولباساً لها لا يبلى، وزاداً لها لا يفنى، وليكونوا جميعاً حاضرِين فصول الرسالة، مزيّنِين صفحاتها، مُجيزينَ معلوماتها.
وساق المشرف لتلميذه ذات صباح نبأ تعيين اللجنة، سوقَ مَن يقرأ أثر النبأ في وجه مخاطبه، إذْ كان مشرفاً ووالداً وأخاً كبيراً، مُغدقاً حريصاً. وتلقى صاحبنا ذاك النبأ بفرح وقلق، فرحٍ أنْ يكون على رأس تلك اللجنة الأستاذ العلَم والنجمُ الأعمّ الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى، وكانت مشاركته تحقّق رغبة عارمة عنده، وقلقٍ من الأستاذ الثاني في اللجنة، الذي لا يعرفه حينها ولا يعيب الكبيرَ ألّا يعرفَه الصغيرُ! إذْ كان أستاذاً جديداً في القسم، لم يناقش أحداً فيه، ولم يذُع في الكليّة آنذاك صيتُه، ولا سُمع صوتُه.
كان هذا الأستاذ أستاذه صاحب الفضل والفضيلة الأستاذ الدكتور محمود توفيق محمد سعد، الذي شرف القسم بعضويته ذلك العام، وعرفه صاحبنا بعد ذلك أستاذاً نادر المثال، في طبيعته واهتماماته، وفي مناقشته ومحاضراته، وفي علمه ومؤلفاته.
في لقائه الأول به صبيحة المناقشة لقي رجلاً توحي تعابير وجهه بجدية وصرامة، وتغلب إشاراته كلامه، وتلقى في نفس رائيه هيبة وجلالة، وتوحي نظراته بذكاء ودراية.
من ذكريات صاحبنا معه في أول لحظات اللقاء أن تبينت له علاقة وثيقة للأستاذ مع الدكتور محمد أبو موسى، فكان يمشي معه مشية التلميذ مع أستاذه، يحادثه بابتسامة وأدب، ولا يتقدم عليه بفعل أو مقال. وفيما بعد علم أن هذا الأستاذ كان أحد أبرز تلاميذ أستاذ الجميع محمد أبو موسى، وأحد الذين سمع صاحبنا مراراً فيما بعد من شيخهما ثناء عليه، علماً وأمانة وبذلاً ونصحاً، وحسبكم برجل يثني عليه محمد أبو موسى!
ومن ذكريات صاحبنا أنْ تبيّن له بعد أنْ بدأ أستاذه بمناقشته أنّه أشبهه وماثله بشرف مناقشة أستاذهما الجليل، إذْ قال في مفتتح مناقشته مخاطباً الفتى بخطاب لا يخلو من طرافة: (قبل عشرين عاماً جلست مثل مجلسك هذا، وجلس شيخنا أبو موسى مثل مجلسه هذا، لكنه أسمعني أضعاف أضعاف ما أسمعك!).
وربما كان الأستاذ يمهد بهذه العبارة لمناقشة ساخنة، وسجال حامٍ، مع تلميذ طريِّ العُود، غضِّ الإهاب، هَشّ العظام. فمع ما في مناقشته من فوائد وتِلاد، وسُحبٍ وعِهاد، حوت جلجلة وإرعاد، وصولات وجولات، وواجه فيها صاحبنا كرّاً وفرّاً، واستثارة واستنفاراً، لكنّ كلّ ذلك لم يغيّر من حقيقة ما أدركه في صوت أستاذه من اجتهاد ونصح، وعلم وبذل، مدّت أوّل خيط لعلاقة تكاثرت خيوطها فيما بعد. وقد عرف التلميذ بعدُ أنّ في مناهج المناقشين منهجَ إثارة الباحثين ليفكّروا ويحلّلوا ويجيبوا، وتلك صفات لابدّ لكل باحث أن يتّصف بها، ومع ما كان من الأستاذ في مناقشته فقد كان مستمعاً جيّداً ولإعطاء تلميذه فرصة متيحاً.
ومن طرائف ذكريات صاحبنا أنه بعد أكثر من عشرة أعوام من تلك المناقشة كان مناقشاً ثانياً لرسالة دكتوراه كان المناقش الأول فيها هو شيخه المحمود الموفّق، وكان المشرف فيها مشرفَ صاحبِنا الهُمامَ المقدَّمَ، وحين بدأ صاحبنا بعد انتهاء أستاذه افتتح مناقشته بقوله مخاطِباً الطالبة: (قبل أكثر من عشرة أعوام جلستُ مثل مجلسكِ هذا، وجلس شيخنا محمود توفيق مثل مجلسه هذا، لكنّه أسمعني أضعاف أضعاف ما أسمعك!)، فالتفت إليه أستاذاه ضاحكان، وكان الدكتور متفاجئاً أدرك ما عناه القائل، وإلى أيّ موقعة أشار، وقال ضاحكاً ممازحاً: (أما زلتَ تذكر؟)، وأنّى لسجال الشيوخ أنْ يزول!
كانت أوائل كلمات الأستاذ في المناقشة هي أوّل ما تلقّاه التلميذ، فوجد في صوته وحروفه وبيانه وكلامه فصاحةً عالية، وتعابير مميّزة لافتة، وأسلوباً متفرِّداً في الصياغة، أعلمته ابتداء أنه أمام أستاذ متفرّد في لغته وبيانه، ثمّ أكّدت ذلك كتبه فيما بعد، كما أكّدته محاضراته في قاعات الدراسة، واجتماعاته به بعد حين. فللأستاذ لغة جزلة، ومفردات غير مألوفة، وعزف منفرد، وميسم خاصٌّ به. وحين اتسعت العلاقة، عرف في صفات الشيخ تميُّزاً وتفرُّداً، وهذا كلّه يؤكّد على أنّ اللغة مظهر صادق للإنسان ذاته، لحياته وطباعه ومعارفه.
عرف صاحبنا أستاذه قليل الكلام، منعزلاً في مكتبه أو مكتبته، ليس له اهتمام بغير قلم ومحبرة، وطلاب وقاعة، وعلوم ورسالة. التقاه مرّات قلائل في أروقة الكلية، كان راجعاً فيها من محاضرة، أو مقبلاً على محاضرة، والتقاه مرّات عرَضاً بين أرفف الكتب في مكتبة الجامعة، وفي كل لقاء كانت بيده أوراقه، أدرك الفتى أنه أمام أستاذ ليس في وقته شيء لغير العلم والبحث، بدأب وصبر، وكانت الدقائق التي يقف فيها معه لا يكون فيها حديث في غير العلم والبحث.
وعرفه محبّاً للعزلة، منجذباً إليها، فارّاً من كل ما يشغله، أو يكون مظنّة الإشغال، ولذلك قلّت علاقاته وعلائقه، وعاش أعوامه الثلاثة في الرياض منفرداً، وبين أقرانه فريداً. وربّما كان هذا من أسباب عزوفه عن الاستمرار في العمل هناك، فآثر العودة إلى بلاده، ثم سار على خُطى شيخه وأستاذه، واستجاب لحثّه وتشجيعه فعمل سنوات في جامعة أم القرى، مُحبَّباً إليه العمل في ربوعها مجاوراً وطائفاً، بين طواف وتَطواف، وفيض وإفاضة.
ثم مَنّ الله على صاحبنا وشرّفه، وأغزر عليه فضله وأكرمه، بأنْ كان شيخه أحد أساتذته في مرحلة الدراسة المنهجية في مرحلة الدكتوراه، ضمن أوّل دفعة ابتُليت بنظام الدراسة المنهجية في هذه المرحلة، وهو ابتلاء كان في باطنه خير ورحمة ونفع وقوّة. دخل الشيخ محاضرته الأولى ومن حسن حظّ صاحبنا أنه كان الأعرف به، ومن لحظاته الأولى بدت شخصيته العلمية المتميّزة بتقديم علمي عميق، ومعرفة واسعة، وتحليل دقيق، وكان الأبهى والأجمل أنه لم يقدّم مادّة يجدها تلميذه في كتاب، بل كانت كلماته غراسَ أرضه، ونبْتَ تُربته، التي أصلحها وسوّاها، ثم زرعها وسقاها. كانت محاضراته تحرّك العقل وتثيره، وتستدعي التفكير وتنمّيه. درس صاحبنا على يديه البلاغة القرآنية والنبوية بمنهج جديد، وكان من آثار حماسه ونشاطه أنْ فاجأ أستاذه بعد انتهاء الفصل واختتامه بنسخة من محاضراته محققة موثقة، كان العمل فيها ممتداً هاطلاً طوال أشهر الدراسة، لا يهدأ ولا يكل.
أدرك صاحبنا في أستاذه وفاء لشيخهما، وحباً تجاوز المقال إلى الفعال، والنظرية إلى التطبيق، وكان يحبّ أن يكون لقاؤهم في بيت الشيخ، فكان مجلس الشيخ مجتمعَهم. فأمّا جميل ذكره لأستاذه فهذا أمر لا مِراء فيه، وأمّا تلطّفه معه فكألطف ما يعامل ابنٌ بارٌّ أباه، لكنّ الجميل في وفائه أنه مضى إلى ما هو أوثق من ذلك غَرزاً، وأحكم عَقداً وربطاً، حين فهِم منهج أستاذه واستوعبه، فأفاد منه ونشره، وكتب وكلماته نور (الكلمة نور) في محاورات منهجية لشرح شيخه لأحاديث من صحيح مسلم، في مجلد زادت صفحاته على أربعمئة صفحة، ثم زاد وأفاض فأخرج ما كان طلّاب البلاغة ينتظرونه، وهو البديع عند شيخه، فقد شُغل الشيخ الكبير بتحليل الكلام البليغ، وإخراج مسائل المعاني والبيان، عن إخراج شيء في مسائل البديع، وكانت له رغبة في ذلك. لكنّ الدكتور محمود توفيق فاجأه بعمل عزيز، ندب نفسه إليه، وأشغلها به وقتاً ليس بالقصير، وجهداً ليس باليسير، بتفريغ محاضرات للشيخ، واستخراج استنباطاته وتحليلاته في البديع، فرتّبها وهذّبها وبوّبها، ثم علّق عليها وحقّقها، وأخرجها في مجلّد ضخم، أسعد به محبّي الشيخ وتلاميذه، وقدّم للوفاء صورة ناصعة في عصر قلّ فيه أمثاله!
في حياته العلمية تطواف لا يكلّ، وسعي لا يملّ في استنباط المعرفة، وبحث عنها، واستخراج لها، في نَهَم بما عزّ منها وغاض، وتوارى عن الأنظار، فكانت مؤلفاته تشي بأسرار ما تبحث فيه، كما تشي بذلك السرّ في أعماق نفسه، الدّال على خلجات روحه، تلك الروح البحاثة التواقة إلى المعرفة، في نفرة من الملهيات والتوافه، وكراهية للمشغلات والصَّوارف. فانطلق من آراء العصام البلاغية، وثنى بجهاد البقاعي العلمي، ومر بدلالات الألفاظ عند الأصوليين، وعرّج على استنباط المعاني من القرآن والسنة، وأبان عن فقه بيان النبوة، ونقَدَ العقلَ البلاغيّ، وبين ذا وذاك دراسات وبحوث كانت البلاغة ومسائلها أرضَها وسِقاءها، في إثبات غير مباشر بأثر هذا العلم في العلوم، وتغلغله في النفوس. وربما طبعت طبيعتُه النَّفُورُ، وجِبِلّتُه الجَمُوحُ كتابَاتِه ومؤلَّفاتِه بشيء من غموض، ووسمتها بآثار من خفاء، وكأنه يريد أنْ يسلّم ما فيها إلى ذي عقل نابه، وجنان حاضر، يقرأ فيحلّل ويستوعب، ثم يعي ويفهم.
ولم يزل الشيخ في درب العلم سائراً، محاضرة ودرساً، وإشرافاً وتأليفاً، ومشاركة وحضوراً، تُوِّج عطاؤه باختياره ليكون أحد أعضاء هيئة كبار علماء الأزهر منذ عام 2020م. وما زال الأستاذ النادر ماضياً في مسيرته ودربه، لم تغيّر المكانة والمنزلة شيئاً من صفاته، ولم تطغ على معدنه، ولم تعكِّر صفو مائه.
فما زال محموداً موفقاً، وللعلم نشراً وحمداً، وللخلق نفعاً وسعداً.

ذو صلة