مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الحكمة والشعر.. تداخل وتباين

يحيلنا عنوان المقال إلى اصطلاحين ومفهومين يجوز القول فيهما إنهما يفترقان إن اقتربا، ويقتربان إذا افترقا، أي عندما يذكران معاً يتضح أن هناك اختلافاً كبيراً في مدلوليهما، وعندما يأتي كل منهما على انفراد يتقارب المدلولان مع بعضهما حد التداخل والتماهي أحياناً، وقد يختلطان في التصور الأولي إذا كان دون تمحيص وتعمق، ولكن الأمر جلي بدون شك عند ذوي البصيرة والاختصاص كونهم يتلمسون الفارق الكبير والبون الشاسع الفاصل بين كل واحد منهما نظرياً، وسر هذا الالتباس يعود إلى أن كلا المصطلحين يتبادلان التقديم والتأخير فيما بينهما، عندما نتحدث عن شعر الحكمة تارة وعن حكمة الشعر تارة أخرى، بينما أن كلا المفردتين (الحكمة والشعر) تشيران إلى عالمين مختلفين، وفضاءين معرفيين واسعين، وكل واحدة منهما عنوان لنتاج حضاري ثري كماً ونوعاً أنتجه العقل البشري، وكل منهما طريق من طرق المعرفة الإنسانية له خصوصيته البائنة.
والإنسان العربي بطبيعته ميال فطرياً نحو الحكمة ونحو التوصل إلى أعمق وأجل المعاني بأقصر الطرق، وبأقل ما يمكن من الكلم من خلال الاختزال والتكثيف اللغويين، وهذه الخصائص جعلته يسن قانوناً عبقرياً للشكل اللغوي، فيه انتصار واضح للحكمة وفصل الكلام، وهو: (خير الكلام ما قل ودل)، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار مستوى النبوغ البلاغي الرفيع الناجز إبداعياً والمتحقق على مستوى الذائقة الجمعية للعرب، فصارت هذه المقولة معياراً وقاعدة ذهبية مضطردة لقياس الغث من السمين في الكلام العربي، ولم يقفوا عند حد الإقلال في كم الكلام والإكثار من نوع الدلائل الكامنة فيه وخيريتها، بل تماروا وتنافسوا في ميدان التناهي في هذا المضمار، فكانت البلاغة بأرقى مستوياتها والحكمة بأعمق توصلاتها هما السمة البارزة والمادة الناجزة لإفصاحهم الحضاري الملموس.
وأدبنا العربي في جميع عصوره ومراحله يزخر بـ(شعر الحكمة)، وهذا المصطلح في مفهومه يختلف عن مفهوم (حكمة الشعر) في نقطة جوهرية تغنينا معرفتها عن بقية النقاط، ففي شعر الحكمة يكون الشاعر قاصداً للحكمة بحال من الأحوال في كتابته أو قوله للشعر، ولا أعني بكلمة (قاصد) أن الشاعر الذي يكتب الحكمة هو شاعر مصنوع أي أنه ينظم الشعر ويجيد صناعته دون المقومات الحسية والانفعالات النفسية المرهفة للفعل الإبداعي، فهناك شعراء كبار جرت على ألسنتهم الحكم بشكل مطبوع، وقد خلد الدهر تلك الحكم بصياغاتها الشعرية الفائقة التعبير جمالياً، وخير دليل على ذلك شعر أبي الطيب المتنبي، فديوانه بالإضافة إلى كونه ديوان العبقرية الشعرية العربية الفذ، فإنه في ذات الوقت ديوان الحكمة العربية لما يزخر به من الحكم والعبر التي مازالت الألسن رطبة بترديدها إلى يومنا هذا، ورغم قامة المتنبي الشعرية العملاقة لم تغفل عين الناقد الحصيف عن تسديد الرأي النقدي الثاقب، ويتجلى ذلك حين سئل فيلسوف الأدب العربي أبو العلاء المعري عن رأيه في التفضيل بين أعظم قامات الشعر في عصره، وهم: أبو الطيب المتنبي وأبو تمام والبحتري؛ أجاب بكل ثقة ووضوح قائلاً: (المتنبي وأبو تمام حكيمان، إنما الشاعر البحتري)، فاستبعد لقب الشاعر عن الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشعره لمجرد إكثاره من قول الحكمة، وهو القائل:
وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَصائِدي
إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِدا
فَسارَ بِهِ مَن لا يَسيرُ مُشَمِّرا
وَغَنّى بِهِ مَن لا يُغَنّي مُغَرِّدا
أما في مفهوم (حكمة الشعر)، تكون الحكمة أو الفكرة العلمية مسترخية ومبثوثة في طيات الشعر العربي، فتخرج صافية رائقة من قريحة الشاعر بشكل عفوي من خلال قدراته الذهنية الوقادة دون أن يقصدها كغرض أساسي، فمن الممكن أن يصوغ الشاعر حكمة بليغة نافعة وهو غارق في التعبير عن حالة وجدانية خاصة، وربما تخرج من لسانه حكمة عبقرية أثناء كيله المديح لشخص ما، وذاك الشخص بعيد كل البعد عن الحكمة، أو أثناء قذفه لحمم الهجاء لخصومه ومناوئيه وفي قلبه مرجل يستعر، أو عندما يكون سادراً بخيلائه مفتخراً بذاته وقومه، وفي أحيان كثيرة تخرج الحكمة نقية وعميقة أثناء بوح الشاعر للواعجه وتشببه بالغزل والنسيب أو أثناء أدائه أي غرض من أغراض الشعر العربي التقليدية المعروفة.
ومن المعلوم أن البلاغة والحكمة هما ديدن الإنسان العربي، خصوصاً إذا اقترنا بتكثيف العبارة، وهاتان الخاصيتان هما من المسلمات الأولية في كلام العرب منذ عصر ما قبل الإسلام، وقد ألقى ذلك بظلاله على الشعر، الذي كان الوسيلة المثلى لحفظ عصارة أفكارهم وخلاصة حكمهم، فلا غرو أن يقترن مفهوم الشعر مع مفهوم الحكمة، ويتخذان معنى اصطلاحياً متداولاً، على الرغم من أن الحكمة مصطلحاً كثرت تعاريفها، وأغلبها لا تخرج عن كونها قولاً بليغاً مكثفاً صادراً عن فكر نير وعقل رشيد وتجربة راسخة، وبذلك تكون أهم معطياتها الموعظة والإرشاد، ومن هنا عزز الشعر الحكمي -إذا جازت التسمية- المعايير الأخلاقية والمثل السامية التي كانت تتسم بها أعراف المجتمع العربي وتقاليده السائدة، كما أنه كان يدعو ويحث على مكارم الأخلاق كالوفاء والتسامح والشهامة والعزة والعفو عند المقدرة ومساعدة الضعيف، إلى جانب ذلك يساهم في تعضيد روح الصبر والحلم عند العرب، كل تلك القيم النبيلة التي تنطوي عليها شخصية العربي كانت تصاغ بألفاظ وتراكيب عذبة وجزلة وبأناقة لغوية تستبطن معانياً مستساغة سلسة، لذلك ظلت الكثير من الحكم المصاغة شعراً ترددها الأجيال إلى هذه اللحظة، ويستشهد بها عند المواقف التي تتطلب ذلك.
ومن بين شعراء الحكمة في العصر الجاهلي: زهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وأعشى قيس، وكعب بن زهير.. وغيرهم الكثير.
يقول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
ومَن يكُ ذا فَضْلٍ فيَبخَلْ بفَضلِه
على قومِهِ يُسْتَغْنَ عنه ويُذمَمِ
ومَن هاب أسبابَ المَنايا يَنَلْنَهُ
وإن يَرقَ أسباب السماءِ بسُلَّمِ
ومَن يَجعل المعروف في غيرِ أهلِه
يَكُن حَمدُه ذمًّا عليه ويَندَمِ
أما طرفة بن العبد فرغم قصر حياته وحداثة سنه فقد برع في قول الحكمة، وكأنه اختزل تجارب الحياة وهو في غضاضة عوده، فيقول:
والإثُم داءٌ ليسَ يُرجى بُرؤُهُ
والبُّر بُرءٌ ليسَ فيه معْطَبُ
والصّدقُ يألفُهُ الكريمُ المرتجى
والكذبُ يألفه الدَّنئُ الأَخيَبُ
ولَقد بدا لي أَنَّه سيَغُولُني
ما غالَ عاداً والقُرونَ فاشعبَوا
أدُّوا الحُقوق تَفِرْ لكم أعراضُكم
إِنّ الكريم إذا يُحَرَّبُ يَغضَبُ
أما الشاعر أعشى قيس الملقب بـ(صنّاجة العرب) فقد أكثر من قول الحكمة في شعره الغزير، ومما قاله في الحكمة:
قَد يَترُكُ الدَهرُ في خَلقاءَ راسِيَةٍ
وَهياً وَيُنزِلُ مِنها الأَعصَمَ الصَدَعا
وكعب بن زهير الذي ورث الحكمة عن أبيه، اعتاد هو الآخر قول الحكمة في شعره الفائق الروعة، إذ يقول:
لَو كُنتُ أَعجَبُ مِن شَيءٍ لَأَعجَبَني
سَعيُ الفَتى وَهُوَ مَخبوءٌ لَهُ القَدَرُ
يَسعى الفَتى لأُمورٍ لَيسَ مُدرِكَها
وَالنَفسُ واحِدَةٌ وَالهَمُّ مُنتَشِرُ
وَالمَرءُ ما عاشَ مَمدودٌ لَهُ أمَلٌ
لا تَنتَهي العَينُ حَتّى يَنتَهي الأَثَرُ
وخلاصة القول إن الشعر باعتباره مدرسة ترفد الحياة بالكثير من المعارف، وجسراً يربط بين الكثير من متناقضات العالم؛ يعد مصدراً لاستنباط الحكمة أو استلال العبرة، وفي كثير من الأحيان يتم التوصل إلى حقائق علمية مهمة ومفيدة من خلال بعض الأبيات الشعرية التي قد تكون سابقة لعصرها، ومن المعلوم أن كثيراً من المفكرين وأصحاب النظريات في مختلف الحقول العلمية والمضامير المعرفية كانوا قد بنوا أفكارهم ورتبوها على ضوء تجارب شعرية محضة، فالشعر غالباً فيه تشوف رؤيوي لما هو آت.

ذو صلة