مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

يوسف فاضل.. الانتصار للهامش والعوالم السفلية

تمتد التجربة الروائية للكاتب والروائي المغربي يوسف فاضل لأربعة عقود، أثمرت نصوصاً متميزة لا يمكن التغاضي عنها عند الحديث عن السرد الروائي المغربي، خصوصاً أنها نصوص انفتحت على العوالم السفلية، وانتصرت للهامش والمهمشين، وأعطت البطولة لشخصيات مشوهة معطوبة وهجينة وفي وضع مأزوم، كما هو الشأن مع مجموعة من الأعمال الروائية العربية التي رأت في تسليط الضوء على هؤلاء نوعاً من الخدمة المجتمعية، وسعياً إلى التغيير إلى ما هو أحسن، وذلك حباً في الإنسان والإنسانية جمعاء.
فعبر ثلاثة عشر عملاً روائياً، ابتدأه الكاتب المسرحي والسيناريست المغربي يوسف فاضل برواية (الخنازير) 1983، عبوراً بـ (أغمات) 1990، و(سلستينا) 1993، و(ملك اليهود) 1995، و(حشيش) 2000، و(ميترو محال) 2006، و(قصة حديقة الحيوان) 2007، و(قط أبيض جميل يسير معي) 2011، و(طائر أزرق نادر يحلق معي) 2013، و(فرح) 2016، و(مثل ملاك في الظلام) 2018، و(حياة الفراشات) 2020، إلى رواية (غبار ونجوم) 2021، استطاع يوسف فاضل تحويل الهامش إلى مركز أساسي في السرد، وسلط الضوء على قضايا مجتمعية وسياسية حارقة في المغرب منذ خمسينات القرن الماضي إلى الآن، من مثل الهجرة السرية والفقر والتهميش وسنوات الجمر والرصاص والإرهاب والتطرف والجماعات الإسلامية، وجعل من الدار البيضاء، المدينة الغول، ودروبها السفلية وتناقضاتها الصارخة فضاءات أثيرة لرواياته، مثلما فعل نجيب محفوظ مع القاهرة.
فمنذ عمله الروائي الأول ويوسف فاضل يحفر في تضاريس المجتمع المغربي، يشرح عيوبه وأمراضه، ويبحث في خلفيات الكثير من المحطات التاريخية المهمة التي عرفها المغرب، والتي أثرت بشكل كبير على المجتمع المغربي، ناقلاً أدق التفاصيل الصغيرة التي قد لا يلتفت إليها الإنسان العادي، ولكنها في نهاية المطاف قد تصنع سعادته أو شقاءه. ولعل هذا الاهتمام هو ما انعكس أيضاً على نصوصه المسرحية مع (مسرح الشمس)، و(مسرح اليوم) حيث التحمت الوشائج والهموم مع سيدة المسرح المغربي الراحلة ثريا جبران وزوجها المخرج عبدالواحد عوزري في مسرحية (أيام العز) و(جرب حظك مع سمك القرش)، و(صعود وانهيار مراكش)، و(سفر السي محمد)، و(بوحفنة) أو (الباب مسدود)، وقبلها مع مسرحية (حلاق درب الفقراء) التي تحولت فيما بعد إلى أشهر فيلم سينمائي مغربي مع المخرج الراحل محمد الركاب، وغيرها من السيناريوهات التي أنجزها واشتغل عليها مجموعة من المخرجين المغاربة في أعمال تلفزيونية أو سينمائية، وعلى رأسهم المخرج داوود أولاد السيد مع فيلم (طرفاية باب البحر) و(في انتظار بازوليني)، وذلك قبل أن يتحول إلى إخراج أعماله مع فيلم (أكادير إكسبريس).
الرواية والتغيير المجتمعي
لا يختار يوسف فاضل لرواياته أبطالاً من الشخصيات الفذة، لأنها لا تهمه بالأساس، ولا يمكن أن تمنح رواياته النسغ الذي يبحث عنه، بل يهتم بالشخصيات المهمشة، والمشردين، وأصحاب العاهات، والأقزام، والباغيات، والجنود، وغيرهم ليبسط أوضاعهم المقلقة ويشخص النبض الحقيقي للمجتمع؛ كبواته وإخفاقاته وبعض نجاحاته التي يعرفها منذ الاستقلال إلى الآن، جاعلاً من الرواية بوابة للتغيير المجتمعي، عل الرغم من أنه ينكر للرواية هذه الغاية، كما قال في تصريح لـ(المجلة العربية): (لا أعرف رواية غيرت مجتمعاً، ولا حتى (البؤساء). ولكن الثقافة تغير المجتمع، الثقافة بمعناها الواسع تشمل المجتمع بأدبه واقتصاده وفلسفته، وما يشاهد الناس على الشاشة الصغيرة، وتطلعات نُخبه، وسلوكه اليومي. التغيير مشروع شامل متكامل العناصر. نحن نعيش مع الترام والإنترنت وأدوات التواصل الأكثر حداثة، ونعيش أيضاً بذهنية القرن التاسع عشر. تمجيد الماضي هو الطاغي. نمجده لأننا لا نعرفه، معتقدين أننا نعرفه. متشبثين بالحاضر ولا نعرف من الحاضر إلا اللّعب (gadgets). يضاف إلى هذا أمراض جديدة: سوء النية واللامبالاة والكسل. الرواية تبحث في هذه التربة الحالكة الظلمة، وأن يهتدي إليها الكاتب حسب قدرته، ويتماهى معها قارئ أو مجموعة قراء إلى هذا الحد أو ذاك فهذا هو المطلوب بالنسبة لي. ومجرد قراءة كتاب أعتبره تغييراً في حد ذاته، مهما بدا ضئيلاً. خصوصاً في زمن لا يقرأ فيه إلا القليلون. القليلون جدا).
لقد ارتبط الكاتب يوسف فاضل، الذي يخلص لعملية الكتابة ويعتبرها تمريناً يومياً، بمجتمعه وبيئته، وراوح بحيوية كبيرة بين كتابة الرواية، والسيناريو والمسرح، وأسهم بشكل كبير في تشكيل وعي جديد بسؤال الكتابة الروائية في المغرب وعلاقتها بالذات والتاريخ والمجتمع عبر توظيفه للحلم والتذكر والتشظي والتهجين، وتقنيات أخرى أضفت على رواياته الأخيرة مسحة جمالية، وجعلت القراء يتلقفونها ويلهثون وراء أحداثها وشخصياتها، القريبة منهم ومن تاريخهم الحديث، فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وما عرفته من انتهاكات، حيث ذاق هو نفسه مرارة الاعتقال، وقضى فترة (1974-1975) في معتقل (درب مولاي الشريف)، وهو معتقل سري سابق سيئ السمعة بالحي المحمدي بمدينة الدار البيضاء، كان يُستعمل خلال سنوات الرصاص لاستنطاق وتعذيب معارضي النظام آنذاك.
الرواية وتجربة السجن
وقد برزت هذه التجربة السجنية بتفاصيلها المرة في روايته (طائر أزرق نادر يحلق معي)، الصادرة عام 2013 عن (دار الآداب للنشر) ببيروت، التي قدم فيها شهادة روائية عن مرحلة رهيبة من تاريخ المغرب تعرف بسنوات الجمر والرصاص، وتناول موضوع الانقلاب العسكري الفاشل وضحاياه، وأهدى عمله إلى شهداء معتقلات الإبادة في تازمامارت، وأكدز، وقلعة مكونة، وسكورة، ودرب مولاي الشريف، والكوربس، والكومبليكس، ودار المقري، الأحياء منهم والأموات.
وعلى الرغم من تناول العديد من الكتاب المغاربة في أعمالهم لسنوات الجمر والرصاص، وتقديم المعتقلين أنفسهم لشهادات في هذا الموضوع، إلا أن الكاتب يوسف فاضل قدم كتابة مختلفة وظف فيها عنصر الفانتازيا أو اللامعقول، الأمر الذي جعل من روايته عملاً مستفزاً، يسلط الضوء على عالم السجون السرية والمعتقلات الرهيبة بالمغرب، والتهميش والتجاهل الذي تعرض له هؤلاء السجناء، وتعاطي النظام مع معارضيه وتنكيله بهم، ناهيك عن التجويع والتعذيب والإذلال الذي لا يتوقف ولا يهدأ، والذي تعرضت له حتى عائلات المعتقلين، التي ظلت تبحث عن أبنائها وأزواجها إلى أن رضخت السلطات في المغرب للمطالب الخارجية وأصدرت عفوها عن كل السجناء، وأسست هيئة للإنصاف والمصالحة، وحاولت جبر ضرر العديد من المعتقلين وتعويضهم مادياً، أو تعويض عائلاتهم في حالة وفاة المعتقل.
الكتابة المشهدية والسخرية أيضاً كانت العناصر التي اعتمد عليها يوسف فاضل في روايته (قط أبيض جميل يسير معي)، التي تعد أول رواية مغربية مباشرة عن العهد السابق، تقتحم عوالم القصر، وتكشف عن الوجه الآخر للحاكم من خلال مهرجه (بلوط)، وتتناول تاريخاً قريباً، ووقائع مازالت ماثلة أمام أعيننا، رغم أن فاضل يحاول ما أمكن إبعاد الصبغة التاريخية عن روايته، ولكنها حاضرة بقوة، وبأسلوب وتقنيات سردية عالية، تجرأ فيها فاضل على اقتحام ما كان مسكوتاً عنه في المغرب: السلطة، القصر، والصحراء، والجيش، والتحدث عن فترة غير يسيرة من حكم الملك الراحل الحسن الثاني، وتحديداً 27 سنة من ملازمة المهرج له في القصر.
قد تبدو عناوين روايات يوسف فاضل غريبة وملغومة لبعض القراء، ولكنها بالمقابل مدروسة ومختارة بعناية فائقة من قبل قارئه الأول، كما أسر لنا، وهو الكاتب والقاص المغربي أحمد بوزفور، الذي منح للعتبة الأولى لأعماله النسغ والجاذبية المنتظرة، حيث توجت أعماله بجوائز مهمة من بينها (جائزة الأطلس الكبير للكتاب) التي تمنحها السفارة الفرنسية بالمغرب عن روايته (حشيش) عام 2000، كما حازت روايته (طائر أزرق نادر يحلق معي) على (جائزة المغرب للكتاب) عام 2014، وهي الرواية التي بلغت القائمة القصيرة لـ (جائزة البوكر للرواية العربية) دورة 2014 ، فيما اختيرت روايته (حياة الفراشات) في القائمة الطويلة للجائزة نفسها لعام 2021.
الرواية المتنفس الوحيد
وفي شهر مارس/ آذار من عام 2022، أعلنت جامعة ليون الثالثة بفرنسا عن فوز روايته (فرح) بجائزة كاميليون للرواية المغربية المترجمة إلى الفرنسية، وتم استدعاؤه هو والمترجم فيليب فيغرو لمناقشة الرواية من طرف ممثلي لجنة التحكيم قبل تسليمهما الجائزة. وعن أهمية الترجمة يقول يوسف فاضل بأنها إضافة مهمة ودليل على أن هناك قراء محتملين في بلدان أخرى وبلغات أخرى (الهندية، التركية، الإيطالية، بالإضافة إلى الفرنسية والإنجليزية، وأن عمل الكاتب الحقيقي لا يذهب سدى، لأن أفكاره تلتقي بأفكار أخرى في أمكنة أخرى من هذا العالم. وهذا، برأيه، (ما تقدمه الترجمة للكاتب. وبهذا المعنى تكون الكتب قد سافرت وراجت إلى هذا الحد أو ذاك).
إن ابتعاد أعمال يوسف فاضل عن الزيف وتناوله لقضايا بلده وأناسه المهمشين والمشردين، وغرفه من مدرسة الحياة وليس من بطون الكتب، كما فعل من قبل صنوه الكاتب العالمي الراحل محمد شكري، واعتماده أساليب سردية مختلفة، ولغة بسيطة وعميقة في آن واحد، تحضر فيها العامية المغربية بتوابلها الجميلة وفي أبهى صورها، قد مكنه كل ذلك من الوصول إلى القارئ العربي، ومن إقبال دور النشر العربية كـ (دار الآداب) البيروتية وبعدها (دار المتوسط) بإيطاليا، على نشر أعماله، وتقديمها بشكل راق إلى القراء.
وعلى الرغم من اشتغال الكاتب يوسف فاضل على المسرح والسيناريو، فإن الكتابة الروائية تحتل مكانة مهمة في مساره الأدبي، لأنها الجنس الإبداعي الشامل الأثير لديه، الذي كان دائماً ميالاً إليه، وذلك بسبب قراءاته الأولى للروايات المصرية، كما يقول لـ(المجلة العربية)، الروايات التي (كنا نكتريها من البقال وبائع الحمص والكاوكاو أسفل البيت عندما كنا صغاراً). لا يخفي فاضل أن الرواية والمسرح ساهما في تكوينه الأدبي بشكل كبير، ويوضح أن الرواية مقروءة على نطاق واسع، وأن هناك أسباباً عدة لهذا الوضع، فبالإضافة إلى جاذبيتها الحكائية التي أسرت الكثير من الكتاب الذين لجؤوا إليها، ومنهم من جاءها من أجناس أخرى، فالرواية تمنح فضاءً شاسعاً لبلورة أفكار لا تسمح بها أجناس أخرى، حيث يمكن للقارئ أن يتتبع سراديبها بسهولة أكبر عبر الحكاية.
ويضيف: (نحن نعيش في حبس كبير، مبني على الممنوع. كثيراً ما يحدث لي أن ألوك أفكاراً لن أجرأ على قولها بين جماعة مهما كانت قرابتي بهم. كثيراً ما يحدث أن يحمل المرء معه أفكاره وهواجسه إلى القبر، ليس لأن السلطات تمنع الناس من قول ما يدور في أذهانهم، وإنما لأن الجموع قاتلة. لقد شاهدتها وهي تشج رأس شاب بالحجر لأنه مثلي، أو لأنه يأكل في رمضان. وشاهدتها تغتال رجلاً سرق كبش العيد. الجموع تحتفي بالشخص الذي يتمرغ في نفس الأوحال التي تتمرغ فيها عن حسن نية، وفي الغالب عن سوء نية. يلجأ الكتاب إلى الرواية، لأنها تسمح بطرح العديد من الأفكار وتفكيك العديد من المسلمات. وفي نفس الوقت يتخلص من هذه الأفكار التي تسمم حياته. وينشرها على ورق لا يهتم به أحد. إنه المتنفس الوحيد الذي بقي).
الشباب والتطرف والمستقبل
وفي روايته الأخيرة (غبار ونجوم)، الصادرة عن (دار المتوسط) بميلانو، يعري يوسف فاضل الجماعات الإسلامية المتطرفة، وأفكارها الطوباوية والتدميرية، التي انتشرت في الأوساط الشعبية الفقيرة، وانتقلت إلى الجامعات، حيث يعبر عنها الكاتب بشخصية (الدكتور) الذي يسعى إلى استقطاب الشباب ونشر أفكار تلك الجماعات الإسلامية المتطرفة، ونشر الرذيلة أيضاً عبر ممارسات غير أخلاقية، لا يتردد الكاتب في فضحها، وفضح تجاوزات رجال (العمليات الخاصة).
ومن الأشياء المهمة التي تعمل الرواية على فضحها أيضاً، نذكر استغلال الحركات الإسلامية للنساء، عبر السبي أو جهاد النكاح، وغيرها من الأفعال المشينة التي تجعل من المرأة سلعة تباع وتشترى في تغييب تام لإنسانيتها ولتعاليم الدين الإسلامي، الذي يدَّعون الدفاع عنه وإقامة دولة الخلافة.
في هذه الرواية يقدم يوسف فاضل قراءة للمجتمع المغربي بشكل خاص والعربي بشكل عام، ويكشف التناقضات التي تعتري أفراده، ويشرح أزمات النفس البشرية الخيرة منها والشريرة، وينتصر للحب والإنسان والإيمان الحقيقي غير المزيف الذي يرتقي بالإنسان، ويعلن ولو ضمنياً في الرواية عن إيمانه بالشباب ونشدانهم للتغيير، مادام الشباب بالنسبة إليه يمثل المستقبل للبلد وليس للعائلة، ولكنه يرى أن (هذه المعادلة عندنا مقلوبة، وهذا ما عنيته وأنا أتحدث عن سوء النية واللامبالاة. يعيش الواحد منا وهو يفكر بالظفر بجلده، لا حائط يسند عليه الواحد ظهره وينام مطمئن البال. الأغنياء يهربون أموالهم، الشباب يفكر في الهرب من البلاد. والذي يغادر للدراسة قلما يعود، والأمهات يسافرن ليلدن ذريتهن خارج البلاد إذا استطعن. الجميع يغادر السفينة).
ويضيف فاضل بأنه اختار وضع الشباب في مقدمة أعماله الروائية، الشابات قبل الشبان، وتشريح انتكاساتهم وآمالهم، حتى يؤكد أن (العالم ليس أبيض أو أسود، وأن المستقبل لا يوجد في مكان آخر، المستقبل هنا. ولا يوجد في زمن آخر، المستقبل هو الآن).

ذو صلة