مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

افتراضي

وعدُنا المقطوع لكبير العائلة بعدم لمس الجوال أثناء وجودنا في منزلِ الجدة نُقض من قِبلِ الجميع بعد ربع الساعة الأول من بداية الوصول، ففي الدقائق الثلاثة الأولى انتهينا من السلام والسؤال عن الأوضاع الأسرية، وفي الثلاث الدقائق التي تلتها استنفدنا الشكوى من الطقس والأحوال الجوية، وسريعاً ما بدأت المناوشات بين الأطفال، بدأت سلمية ولا يعلم إلا الله كم من الدقائق ستمضي فتتحول لمشاجراتٍ لفظية، ثم يتدخل الكِبار ويحدث ما لا تحمد عقباه، بعدها لم تعد عقارب الثواني تركض، بل أصبحت رتيبة.
كان أول من نقض العهد والدي الكريم، بصفته الابن الأصغر، ويحق له ما لا يحق لغيره -من منظور جدتي، ثم تبعناه، أمسكنا بالجوالات وكأننا فارقناها من أمد بعيد، أومضت الشاشات، وصرنا نقرأ، نعبس، نبتسم، نرفع رؤوسنا بين الفينة والأخرى، نوزع نظراتنا بين الجوال والموجودين حتى نوهمهم بأننا معهم، وكلنا يعرف أن أجسادنا في تلك الصالة بينما عقولنا قد استأجرنا لها مساحةً في سحابة ما نفتخر بأننا نتصل بها، بخيوطٍ لا مرئية، نتعلق بها كوشائج تصلنا بعالم نسبح في أطيافه.
تكلم والدي بعصبية: من تحسب نفسك لترد علي بهذه التغريدة يا نكرة؟
يا.... والله لن أتركك هذه المرة..
ارتفعت الرؤوس، نظرنا لبرهة، عدنا للجوالات، قال أحدنا:
- عسى خير!
لم يرد والدي بكلمة، بل أرسل التغريدة للمجموعة الخضراء (العائلة الموقرة)، قرأنا التغريدة، في غضون لحظات ارتفعت حرارة الجميع في صالة الجدة، احتدم النقاش بين مؤيد لوالدي ومعارض له، والعكس، اختلفنا، تعالت أصواتنا في نقاش حاد، دعمت عماتي أخوهن بنسخ التغريدة ولصقها في كل المجموعات في الواتساب مع رسائل صوتية تطالب بالدعم للتغريدة وشجب واستنكار كل من يُقدم على مخالفة ما ورد فيها، أو تسول له نفسه السخرية منها، وهكذا انتقلت المعركة من العالم الافتراضي لمعركة باردة ترمي بشررٍ حارق، وبكلمات مسننة، تدخلت جدتي دون معرفة بما يدور، وأزعجها أن صغيرها الكبير مستاء من أمر ما.
- ما الأمر، ما الذي يزعجك؟
وهنا يأتي الجزء الصعب..
بدأ والدي يخبر جدتي عن ذلك الافتراضي، وكيف تجرأ ووضع علامة تدل على عدم الإعجاب والسخرية من منشوراته، بل لم يكتفِ بذلك، فقد خربش على جداره في العالم الأزرق، مرةً بإضافة اسمه على منشوراته السخيفة - على حد قوله- ومرة حاصره في مواقع التواصل الأخرى، وتبعه ثلةٌ من الأغبياء، يقولون ما يقول دون تمحيصٍ أو تحقق مما يشاركون الآخرين به، بل بلغ من سخطه من ملاحقة ذلك الذبابة -هكذا سماه والدي- أنه يشك فيه أنه أبلغ عنه في (الانستا) فكان سبباً في تعطل الحساب..
هنا قاطعته جدتي: آنسة.. أليس رجلاً من تتحدث عنه؟ لااااااا...
هذا لا يحتمل، اتصل بها، وسلمني الجوال وسوف أبلغ أهلها بما تصنعه، أنت رجل له أسرة، اتصل بها..
توقف والدي عن الشرح، تفحص الوجوه حوله، فكتمنا ضحكة لو أُفرج عنها لبلغ صداها جيران الجيران، ضحكة سخرية، أو ضحكة تعجب، في الواقع لا أعلم.
تلى ذلك تغير في مناخ الغرفة المعنوي، فأصبحت الأجواء خانقة، وثمة نذير بهبوب اضطرابات ليست في الجو وحسب، بل في روابطنا العائلية، شعرت أختي الصغرى بأن من واجبها التدخل، أمسكت بجوالها..
- جدتي ما رأيك أن نلتقط لنا صورة جميلة.
ابتسمتا للكاميرا، التقطتا العديد من الصور.
- انظري كيف أظهرت جمالك..
تنظر جدتي لصورها، تبتسم بوداعة.
- هذا الأصفر يظهرني كصبية، ليت جدك يراها، رحمه الله، لطالما أحب التصوير، ولكن كاميرته كاذبة، تظهرني باهتة، أما كاميرتك فتظهر حقيقتي.
طفح الكيل بوالدي، لم يعد معنا بعقله، بل انغمس في عالم التغريد، اعتزم أن يضع حدّاً فاصلاً، لعل جدتي تنفك من تقديم الوصاية عليه، فصار يكتب تغريدة ويُتبعها بأخرى، حتى قام ذلك الافتراضي بحظره، هنا فتق صوته الهدوء بعاصفة من الشتائم باللغة العربية تارةً وبلغة الأفلام الأمريكية تارةً أخرى، سمعنا جميعنا ما تفوهت به شفتاه، فلم يكن هناك رنة موسيقية تحجب تلك الكلمات المشينة.
نظرت إليه جدتي، وفجأة وقفت بظهرها المنحني، سارت نحو الجدار، سحبت عصا لطالما هددتنا بها ولم تستعملها قط، أنزلتها من معقلها، أمسكتها وضربت في الأرض..
- هيا.. هيا.. دلني على بيتها وسوف أؤدبها بهذه العصا.

ذو صلة