مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

أنقاض

سينعم بأوقات هانئة طالما تحين مثلها، الدار خلو من السكان، سيمارس ما يحب، سينام كيفما اتفق، سيأكل على طريقته الخاصة دون رقيب أو حسيب، رحلة خلوية جمعت أفراد أسرته، بينما آثر هو البقاء في المنزل.
وحتى لا يهدر الوقت أعد عدده، وجهز أجهزته، آلات مسموعة وأخرى مرئية، ومفكرة صغيرة تحوي أرقام هواتف، وصحفاً ومجلات وأشرطة كانت طي الخفاء، تناثرت هنا وهناك في فوضوية مقصودة، سيطوف بها لينعم بكل لحظات ليلته هذه.
ارتدى ملابس النوم، لم يبق عليه إلا أن يوصد بابه، وينخرط في متعه الرابضة، منتظراً أوامره السلطانية، وحتى لا يقطع أحد عليه وحدته عمد إلى جرس الباب وأبطل مفعوله، وأراح عدداً من مصابيح الإنارة فاكتنفه السكون، وحفته به الشاعرية، وشملت اللذّة.
وقبل البدء سمع طرقاً خفيفاً بأنامل تذوب رشاقة ورقة، طرقات انهمرت على الباب كرذاذ المطر على أوراق الشجر، انتصب قائماً وأصلح من هندامه، ومس شيئاً من العطر.. اتجه نحو الباب ليرى من الطارق، لعله يضيف شيئاً إلى ملذاته.
فتح الباب ففوجئ بحمار قبالته، خنق ضحكة كادت تبدر منه، تلفت يمنة ويسرة دون أن يلحظ أحداً في الطريق، همّ بأن يخبط الباب أسفاً، رنت إلى ذهنه تلك الطرقات العذبة، فأغلقه بمثلها، وعاد إلى مجلسه.
هز رأسه بابتسامة يستوي فيها الرضا بالغضب، تناول إحدى المجلات على غلافها صورة لفنانة قد زمّت شفتيها بحركة مغرية، مبدية فيها مدى إتقانها للفن المنتسبة إليه أو المنسوب اليها.
عادت الطرقات من جديد، ولكنها أشد قليلاً من ذي قبل، حاول أن يتجاهلها فلم يقدر، قام مسرعاً وفتح الباب بقوة فإذا به يرى كلباً ولا أحد بقربه، دب فيه القلق مشوباً بالخوف، حرك منكبيه باستهانة، وفي سريرته أكثر من الاستعاذة والبسملة، خنق صوت الموسيقى ترقباً للطرق، لكنه لم يسمع إلا أزيزاً وصريراً لا يعلم مصدره.
هبت رياح حركت الساكن، وأيقظت النائم، وأخافت السامر. تشاغل بالقراءة والهمهمة، عاد الطرق أشد من سابقه، ثلاث طرقات متتالية مدوية، اهتزت لها جنبات المنزل، وقبل أن يراجع عقله وجد نفسه مندفعاً نحو الباب وفتحه بتوجس، فرأى قطاً أسود تلتمع عيناه، أغلق الباب، وعاد ترتعد فرائصه خوفاً، وقبل أن يتشاغل بشيء آخر عاد الطرق مرة أخرى، ثلاث طرقات مريعة، وازداد معها الصرير والأزيز.
صرخ من مكانه: -من الطارق؟، فلم يجبه أحد، ثنى جذعه ليجلس، فعاد الطرق من جديد، انتفض واقفاً وقد أيقن أن هذا من فعل الشيطان أو تدبير الجان.
فتح الباب للمرة الرابعة، فألفى أمامه فأراً، عجب مما يحدث، وتوقف عقله عن التفكير، واستولى عليه الخوف، أحس بتنمل في أحشائه، خشي أن يعود فيعود الطرق المخيف، بل توقع أن الطرق سيعاود هذه المرة بمجرد أن يدير ظهره إلى الباب.
استقر فكره أخيراً ألّا يبرح مكانه منتظراً الطارق، تشجع قليلاً ودفع الفأر برجله، فإذا به يلفظ أنفاسه، خرج من المنزل هائماً على وجهه، تتقاذفه الهواجس وصوت الطرق لا يريد أن يفارق سمعه.

ذو صلة