مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عن المدينة في الرواية

عادة ما تكون المدينة في المتون السردية الروائية بملامح تعكس المرجعيات الحضارية والتاريخية والثقافية، حيث يقدم الروائي توصيفاً دقيقاً لها، بل وتكون عبارة عن تشكيلات خطابية تؤكد تمثيلات سياسية واجتماعية معينة تعبر عن علاقات الشخصيات المعقدة والمتشابكة والهشة في الكثير من الأحيان، إذ تتجاوز كونها مجرد هندسة مكانية أو ديكوراً محايداً، لتعبر عن هوية وحضور استثنائي حتى وإن تمت إعادة صياغته بما يعبر عن أيديولوجيا الكاتب وتحيزاته وآماله، لكن معظم الروائيين يصرون على التركيز على المكان الهامشي بوصفه مكوناً جغرافياً يتحرر من الصبغة المركزية، وذلك لتخليصه من الحياد الذاكراتي وتخليصه كذلك من موضعيته المغيبة، خصوصاً أن الحقيقة تكمن في مناطق الظل أو في المسكوت عنه، حتى وإن كان توصيف المدينة يبدو مرتبكاً أو متشظياً أو مهشماً ومستشكلاً في معظم النصوص الروائية المعاصرة، حيث يراهن الروائي على القارئ من أجل لملمة شتاتها وتشكيل هويتها من خلال اللغة/ الرؤية/ الوجود النصاني المتعدد، وهو ما يغير من مفهوم هوية المدينة الذي يرتكز على خصائص نوعية ومرجعيات ثابتة، إذ صرنا نقرأ حول مدن بلا ملامح تنتشر فيها مظاهر الاغتراب والغموض والشعور بالعدمية والعزلة الإنسانية، بعد أن كانت من قبل تمثل إطاراً مرجعياً، يعزز قيم الذات ويدفع عنها قيم الآخر المستعارة، وهذا يظهر أكثر في الروايات التي تصور العلاقة بين الأنا والآخر سواء في صيغة حوار أو في صيغة صراع.
روايات الروائي والأكاديمي الجزائري الأستاذ الدكتور محمد الصديق الزيواني مثلاً انشغلت بتوثيق تفاصيل المكان وكأني به يدفع هامشية المدينة الصحراوية ليجعل منها ذاكرة وتاريخاً مركزياً، لذلك نجده يكثر من الشروح في الهوامش على طول صفحات رواياته. روايات الروائي والأكاديمي الجزائري الدكتور عبدالله كروم كذلك تدافع عن اعتبارات المدينة الهوياتية لتصبح تعبيراً عن التلاحم والالتزام والإنسانية والكرم والقيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية، فمنطقة توات بالجنوب الجزائري يتم استحضارها بوصفهاً مكاناً استثنائياً بكل مكوناتها المختلفة عن مكونات المكان في الشمال، ولربما هذه الروايات وغيرها في ارتكازها على التغاير تشكل حافزاً للآخر من أجل زيارة هذه المدن والتعرف على معالمها وتاريخها، فمدن مثل القاهرة وبيروت وقسنطينة والخرطوم ومراكش، وحيفا وأريحا وجدة وعمان. في المتون الروائية العربية والتي تصور الأزقة والحارات والمقاهي، تسهم في ترسيخ صورتها في ذاكرة القارئ، بل وتتحول إلى صيرورة هاربة من الغياب، أو سير للمدن في شكل إشهار مجاني يعزز الرغبة في التعرف على المكان ويساعد كذلك على التبادل الثقافي، كما في روايات نجيب محفوظ وحليم بركات وغسان كنفاني وغائب طعمة فرمان وعبدالرحمن منيف، وقد يصل الأمر إلى جعل اسم المدينة عنواناً للرواية.
بعض النصوص المعاصرة صارت تورط القارئ بعد أن تصنع دهشة المدن، من خلال التشظي والبعثرة، فمن خلال التوصيف والتهشيم نشهد مدناً شبحية لا ملامح لها، مغرقة في الإغراب لا يستطيع القارئ الإمساك بها، بل يحاول العثور على هويتها من خلال التأويل كروايات إلياس فركوح ومؤنس الرزاز وعز الدين جلاوجي، ويمكن تسمية هذه العملية بالتنصل الهوياتي، حيث يطغى حديث الذات المغرقة في النزعة الفردانية واليأس والأداتية والتنصل من كل الاعتبارات والمرجعيات، ويطغى معها ضمور المعنى داخل هذه المدن المسكونة بهاجس الخوف والحيرة والحياد والقلق الوجودي، مدائن مشغولة بالسؤال لا تجد فيها غير الاستعارات، وهو ما يجعل منها متماثلة ومتطابقة لا تقبل الاستثناء ولا تعترف بالهويات، في حالة ارتباك وذهول عن التفاصيل، وكأني بالكاتب يهرب من سلطة الرقيب وفي نفس الوقت يورط القارئ في صنع مدينته بنفسه.

ذو صلة