مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مدينة مروي والهوية الثقافية

تقع مدينة مروي في الجزء الجنوبي الشرقي من الولاية الشمالية بشمال السودان، على ضفة نهر النيل اليسرى، ويعدّ نهر النيل من السمات الرئيسة الجغرافية المميزة للمدينة، حيث تمتد على ضفتيه الأراضي الزراعية على امتداد المدينة. وتتفاوت مساحتها باتساع وادي النيل من جهة لأخرى شرقاً وغرباً، وهنا يستقر سكان المدينة ويعتمدون في نشاطهم الاقتصادي بصفة رئيسة على زراعة النخيل. تمتاز المدينة باعتدال مجرى النهر، واتساع واديه، وقد ساعد بطء جريان النهر على الإرسابات فتكونت سهول فيضية صالحة للزراعة، أدَّت إلى استقرار السكان ونشأة المدينة في العصور القديمة والحديثة. واشتهرت المدينة بتاريخها الطويل منذ حضارة نبتة ومروي قبل أكثر من 3500 عام قبل الميلاد، وتقف الآثار القديمة شاهداً على ذلك وتشمل معابد الإله آمون بموقع صنم أبو دوم. وكذلك الكنائس وبقايا الأديرة من مخلفات العهد المسيحي.
تتعدَّد المجموعات السكانية في المدينة، إلَّا أنَّ المجموعة السائدة هي مجموعة الشايقيَّة حيث تمثل 80 % من جملة السكان، وتمثل المجموعات الأخرى نسبة 20 %، وتشمل: الحسَّانيَّة، الهواوير، الدَّناقلة، المحس، المصريين، الفور.
تتميز المدينة بطابع معماري من الطين اللبن ويغلب عليه الطراز المعماري النوبي، حيث نجد المنازل بنيت من الطين ولها أسوار ومداخل عالية على الطراز المعماري النوبي، تشبه مداخل المعابد الآمونية.
تتميز هذه المداخل بالزخارف التي تأخذ أشكالاً مختلفة من مثلثات وخطوط متقاطعة ودوائر لها دلالات ثقافية وحضارية لها صلة بالفترات التاريخية القديمة مما يؤكد الاستمرارية الحضارية ويميز هوية مدينة مروي الثقافية.
اشتهرت منطقة مروي بالثراء الثقافي بشكل عام عبر تاريخها الطويل، ونجدها قد حافظت على موروثها الثقافي لحد كبير، نسبة لضعف احتكاكها مع المجتمعات الأخرى، لضيق المنطقة السكنية ومحدودية الموارد الاقتصادية، وقد اعتمد سكانها في إنتاج أدواتهم المادية المختلفة على النخلة، وذلك لأن المدينة تعتمد على زراعة النخيل منذ فترة حضارة نبتة وإلى اليوم، ونجد أن للنخلة تاريخاً طويلاً في ثقافة أهل المنطقة حيث نجد خلال الفترة المروية القديمة كان سعف النخيل جزءاً من معجم التصميمات الزخرفية الفنية التقليدية، حيث تم تصويره على القدور والأواني الفخارية.
كذلك ارتبط جريد النخيل بالعادات الجنائزية والدينية، ونجده صُوِّر داخل المقابر، ويدور حوله معتقد بأنه يجلب السعادة للمتوفى. وهذا الاعتقاد نجده في بلاد النوبة في كل الفترات التاريخية، ففي عهد الملك أرنخامني (235-218 ق. م)، تم تصويره في معبد الأسد في المصورات الصفراء في الحائط الجنوبي في مشهد يصور الملك أرنخامني وهو يواجه العديد من الآلهة، وخلفه تقف الإلهة إيزيس تحمل في يدها اليسرى جريد النخيل. وفي مقبرة شانكداختي (170-160ق.م) في البجراوية وجدت وهي تجلس وتحمل في يدها اليسرى جريد النخيل.
وجدت العديد من التصاوير في المقابر التي توضح أهمية جريد النخيل في الطقوس الجنائزية، كما ارتبط أيضاً بعلامة (العنخ) أي الحياة وربما هنالك علاقة في أنه يبعث روح المتوفى، حيث نجده دائماً موجهاً إلى أنف المتوفى. استمر هذا التقليد في النوبة في العصور الوسطى وإلى الوقت الحالي، حيث ارتبط بعادات وتقاليد دورة حياة الإنسان في الميلاد والختان والزواج والموت.
يذكر ج. فانتيني: (في كثير من المناطق النيلية الواقعة بين وادي حلفا والخرطوم لا يجوز للمرأة الوالدة أن تخرج من البيت قبل أن تتم أربعين يوماً. وفي عشية اليوم الأربعين يبدأ الاحتفال بالمولود وتحمله أمه إلى نهر النيل لتقوم بغسله هناك وفقاً للطقوس المطلوبة. ويعتقد الأهالي أن عقوبات وشروراً ستنزل بالمرأة التي تهمل هذه الطقوس. وترافق الوالدة إلى النيل نساء أخريات يحملن أغصان النخيل ويغنين بعض الأغاني الشعبية المحلية. وتغسل الوالدة وجهها ويديها ورجليها وتقوم بغسل وجه الوليد ورجليه بينما تطلق رفيقاتها صيحات الفرح -وهي الزغاريد-، وقد تعود هذه العادات إلى الطقوس المماثلة التي تتم عند عماد الطفل بالغطاس).
كذلك في طقوس الزواج يحمل العريس دائماً فرع من النخيل، ويقوم بزيارة النيل هو ورفقاؤه الذين يحملون أيضاً جريد النخيل ويرددون الأغاني:
عَرِيْسْنَا سَارْ البَحَرْ اللّيْلَة زِيْنَة
قَطَّعْ جَرَايْد النَّخَل اللّيْلَة زِيْنَة
في حالة الموت نجد عند أهالي المنطقة الشمالية بشكل عام يثبتون على قبور موتاهم ثلاثة أفرع من جريد النخل، يغرس الأول على جانب رأس الميت والثاني ناحية الأرجل ويلقى بالثالث على القبر نفسه.
تشكل النخلة أيضاً كل المنتجات التي يستخدمها إنسان مدينة مروي في حياته اليومية، منها: الحِبَالْ من اللِّيف الذي يعرف بـ(الآشْميْقْ)، والجَّرِيْدْ، و(الفِلَقْ)، وهي إنتاج شقائق من ساق النخلة لاستخدامها في سقوفات المنازل ولأغراض أخرى، و(العَرِشْ) أي سقف المنازل، الذي يستخدم فيه السَّاق ويعرف بـ(المِرِقْ)، و(الفِلَقْ)، والجَّرِيْدْ، وسعف النخيل الذي يستخدم كمادة خام لإنتاج عدد من الأواني المنزلية منها، (القُفَّة)، وهي إناء لحمل المحصولات الزراعية مثل البلح، والخضروات وأغراض أخرى، و(العُمْرَة)، وهي إناء لحفظ الكِسْرَة (الخبز). والطَّبَقْ، الذي يستخدم كغطاء للطعام. وكذلك بعض الأدوات الأخرى مثل (المُعْلَاق)، لوضع الطعام بأوانيه وتعليقه ليتدلَّى من سقف المطبخ، وذلك لحفظ الطعام لفترات طويلة وإبعاده من القطط والكلاب، وأدوات المفارش من السعف مثل البِرُوْشْ.
بشكل عام نجد أن النخلة واستخدام أجزائها لإنتاج الأدوات التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية وارتباطها بالعادات والتقاليد المرتبطة بدورة حياة الإنسان بمدينة مروي تشكل الهوية الثقافية والتي نجد أن مكوناتها مرتبطة بالبعد الحضاري والتاريخي والتي يغلب عليها الطابع النوبي خصوصاً في العمارة التقليدية المبنية من الطين والتي تشبه مداخلها مداخل المعابد الآمونية والتي نجدها مزخرفة بالزخارف النوبية والتي لها دلالات ثقافية في الحضارات النوبية القديمة والمروية.
نخلص إلى أن الإنتاج المادي في المدن السودانية القديمة المستمر منذ الحضارات القديمة والمتوارث جيلاً عن جيل يشكل هوية المدينة وهو الذي يبقى وتتوارثه المجموعات على الرغم من أن هذه المجموعات قد تتبدل لكن يظل الإنتاج المادي هو المتوارث والمستمر ويعبر عن الهوية الثقافية.

ذو صلة