مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

ثلاثة وجوه للمدينة: المرئي والذهني والعلامة (الماركة)

المدينة كيان حي مستمر متواصل بأحداثه وشخوصه في الأمكنة والأزمنة، في استمرارية أوسع بكثير من مبانيها، وشوارعها، وجدرانها، وعناصرها. تتمثل هوية المدينة في وجوهها وصورها المتعددة، ما بين صورها المادية المرئية وصورها الذهنية المتولدة عن الانطباعات الذهنية لها، ووجوه وصور أخرى عديدة مثل وجوهها الروحية والتي تسبغ على المدينة مسحة روحانية أو قدسية معينة، ووجوهها العميقة التي تتداخل وتتقاطع بها طبقات عديدة، وصورها الخفية التي تتطلب استكشاف غموضها وعوالمها المختفية. وأيضاً وجوهها المصطنعة التي قد تغاير واقعها، وغيرها من الأوجه العديدة للمدينة. وهناك ثلاثة وجوه رئيسة للمدينة في وقتنا المعاصر وهي الوجه المرئي والوجه الذهني ووجه المدينة العلامة (ماركة).
الوجه المرئي للمدينة
ويتمثل في الوجه المرئي للمدينة خصائص عمرانية مادية مميزة لها مثل تكويناتها العمرانية وملامح أفق السماء وطبيعتها وتشكيلات مبانيها المميزة وتعبيرات طابعها المعماري إلى جانب مبانيها الأيقونية وعلاماتها المميزة التي تصنع جميعها ملامح صورتها البصرية المباشرة والتي تعرف بها. وهذا الوجه المرئي هو نتاج التطور الطبيعي لهيكل المدينة وتراكم عمرانها وعمق تراثها وملامح عمارتها، وهي صورة المدينة الحقيقية الملموسة في بنيتها العمرانية وفضاءاتها المتعددة وأنشطة حياتها ومتاهات شوارعها وأزقتها، وميادينها وساحاتها وحدائقها، وأسواقها القديمة، وأيضاً في عمقها الذي يعجّ أحياناً بمختلف الألوان والنكهات والروائح.
ويسمح لنا هذا الوجه المرئي بمعايشة عمران المدينة واختباره، ويقدم مجالات عديدة للتآلف مع أحياء المدينة وأزقتها وسكانها ومعالمها، وتمنح حياته اليومية وقعها ونظامها وملامح صورتها التي تعرف بها. ويمثل أفق المدينة الخصائص الفريدة لمناظر المدينة التي تتشكل من خلال ضوابط التخطيط، والظروف الحضرية، وتصميم المباني، والمعالم المعمارية الاستثنائية أو المميزة. وفي هذا السياق تعد مدن باريس ونيويورك وسيدني وشانغهاي وبرلين من بين المدن الكبرى في العالم التي تتمتع بأفق قوي وواضح يمكن التعرف عليه بشكل فريد.  ولهذه المدن طرق مختلفة تجاه صناعة وجهها المرئي، قام بعضها بصياغتها العمرانية من خلال السياسات والقوانين الحضرية المتبعة، واعتمد البعض الآخر على العمارة التي تميزها عن غيرها من المدن، بينما نمت وجوه البعض الآخر بعفوية متراكمة ودون قصد.
الصورة الذهنية للمدينة
عادة ما ترتبط الصورة الذهنية بما يترسخ في الذهن من انطباعات ومشاهدات مكانية وأحداث، وشخوص، وذكريات، ورموز، وعلامات ترسخ في الذاكرة. في هذا الإطار، يعرف كيفين لينش -وهو من أهم مفكري التصميم الحضري للمدن في القرن العشرين- الصورة الذهنية للمدينة بأنها (نتاج عملية ذهنية تتم بين الإنسان وبيئته المادية، حيث تفرض هذه البيئة العناصر المميزة للمدينة والعلاقات المختلفة بينها ويقوم الإنسان بترتيبها في ذهنه وربطها بمعاني يفهمها ويقارنها ذهنياً بالعناصر المدركة من المدينة) وذلك في علاقة تبادلية بين ما هو حقيقي وواقعي وما تمثله من ثقافة مشتركة. وعلى سبيل المثال فقد تميزت المدينة العربية منذ إنشائها بالعديد من الخصائص التي ساهمت في تكوين هويتها وصناعة صورتها الذهنية من خلال ما رسخته في الأذهان من ملامح تاريخها، وتراثها، وعمارتها وحرفها، وثرائها الثقافي والإنساني الذي منحها هويتها المتميزة الناضجة التي تعج بالنشاط الإنساني.
والوجه الذهني أو الصورة الذهنية للمدينة ليست ثابتة، ولكنها متغيرة ومتحولة عبر الأحداث، والخبرات، والفصول والأزمنة والشخوص وكيفية استيعابهم لها. وبصفة عامة، يؤثر التصور الذهني المسبق لدى الإنسان عن المدينة بشكل كبير في إدراكها والإحساس بها ومعايشة تحولاتها وتغيراتها. يذكر مشاري النعيم أن (التصور الذهني عن المدينة يجعل الذاكرة الذهنية لمن سكنوا المدينة يتوقعون مشاهد فضاءات المدينة المتحولة عبر العام والمتكررة حسب الفصول والمناسبات هو الذي يعمق الانتماء للمكان. وأن هذه المسافة بين ما يتصوره الذهن وما تشاهده العين هو ما يجعلنا كبشر نبني أحكاماً مختلفة على نفس المشهد).
صورة المدينة العلامة
إيسام المدن City Branding -إضفاء وسم معين عليها- هو إحدى الإستراتيجيات الترويجية للمدينة التي يتم من خلالها بناء وسم مميز وإنشاء اسم أو رمز أو تصميم يُحدّد هوية معينة للمدينة كي يميزها عن هوية المدن الأخرى. وهو يشبه كثيراً العلامة التجارية للمنتجات التي تُميّز منتجات معينة عن مُنافسيها وتصنع لها (ماركة Brand) ومثلما ترتبط العلامة عادة بإنشاء ارتباط عاطفي باسم هذه المنتجات كعلامات تجارية مسجلة، أو أسماء شركات أو حتى شعارات للعمل على ترويجها وتسويقها، يتم هذا للمدن أيضاً من خلال ترسيخ قيم غير ملموسة تحيط بهذه المدن كعلامة. ومن خلال الإيسام الفعّال للمدن والأماكن، يتم تكوين صورة فريدة لها في أذهان الجمهور، والحفاظ على حضور متميز ومختلف لهذه المدن بهدف الاحتفاظ بولاء الجمهور المهتم وجذبه إليها، سواء كسائحين، أو مستثمرين، أو سكان، أو مهاجرين. وجه المدينة (العلامة) تظهره الوسائط الترويجية المختلفة مثل الحملات الإعلانية والرسائل التسويقية وحملات التسويق السياحي للمدن ومعالمها، الأفلام المصورة والوثائقية، الإعلانات، والمنشورات المطبوعة، ومواقع الإنترنت، وغيرها.
وتتمثل صورة المدينة العلامة من خلال إنشاء صور عمرانية (تخيلية)، تعيد تشكيل وترويج وإدراك جديد لواقع المدينة، أو بعض أماكنها ومقاصدها، أو المعالم، أو الخصائص المدنية بما تحتويها من ممارسات الحياة الحضرية. وبالمقارنة فإن عمران العلامة يعمل على ترويج المدينة من خلال إعادة إنتاج أو إظهار صورتها وذلك من خلال عدة قيم ترتبط بالدور الاجتماعي. وخلال العقدين الماضيين نما الوعي بالأهمية الاقتصادية للمدينة العلامة كإستراتيجية تنافسية بارزة ومهمة. كما ازداد الاهتمام باتباع إستراتيجيات من شأنها بناء علامات (ماركة) للمدن -تماماً كبناء العلامات التجارية- لإحداث تنمية عمرانية سريعة مع الحفاظ على الطابع الأصلي للمدينة. وفي السبعينات من القرن الماضي لجأت بعض المدن الخليجية إلى اتباع العديد من الإستراتيجيات لإيسام المدينة بخصائص متفردة للمساعدة في زيادة تنافسيتها وإضفاء ما يسمى بعمران العلامة. وازداد الولع بمحاولات ترويج صورة المدن مما يؤهلها لأن تكون في مصاف المدن العالمية. يتم ذلك الترويج من خلال طرق متعددة ومبتكرة لإظهار صورة المدينة بكل جوانبها ومن خلال وسائط عديدة.
على مدى العقدين الماضيين، تمت ممارسات مختلفة لعمران العلامة مثل خلق المعالم التذكارية الضخمة، والمباني الأيقونية والأشكال الحضرية المرتبطة باحتفاليات وأحداث مهمة، وأيضاً المباني والمجمعات المبهرة ومراكز التسوق والمقاصد الترفيهية والمتاحف والمباني العامة، وقاعات الموسيقى، والمجمعات الرياضية. يتضح ذلك في العديد من المعالم البارزة التي تشير إلى (سلعنة) المدن التي أنشئت بها، بدءاً من متحف جوجنهايم بلباو بإسبانيا، وبرجي بتروناس بكوالالمبور، مروراً ببرج العرب وجزر النخيل وبرج خليفة بمدينة دبي، إلى مبنى التلفزيون الصيني، إذ اعتمدت جميعها على خلق الصور التخيلية وبناء الانطباع الحضري المبهر كإستراتيجية لتعزيز الصور المختلقة للمدن، أو كخيالات دعائية للاستهلاك في كثير من الحالات، مما يخلق أنماطاً جديدة من الهويات العمرانية للبيئات المبنية ظهرت وانتشرت سريعاً.
وأخيراً فإنه يخلط البعض بين المفاهيم المتعلقة بالمدينة العلامة أو العلامة، لا تعني العلامة شعار المدينة، حيث يعد الشعار في الواقع اختزالاً بصرياً لأهم ما يمز المدينة والصورة الأولية المرتبطة بها. فالعلامة بوجه عام هي مفهوم لا يمكن حصره بالشعار فقط. فمفهوم العلامة أكثر تعقيداً من مجرد الألوان والتشكيل المجرد الرموز، فهو يمثل (صورة مؤسسية) للمدينة، التي تشير إلى التصورات والأفكار التي تكونت في أذهان العامة أو الجمهور عن المدينة، فعندما يسمعون اسم المدينة يتبادر إلى أذهانهم هوية المدينة وملامحها وصورها مجتمعة والتي تميزها عن المدن الأخرى ذلك يلخص امتزاج الصور المختلفة لمدينة أمستردام كتعبير عن هويتها. ومثل العلامة التجارية التي يشير لها سكوت كوك إلى أنها (ليست ما تخبر به الزبائن عن شركتك، بل ما يحدثون بعضهم عنها). وبالتالي فإن صورة المدينة العلامة هي عملية بناء تصورات الجمهور عن المدينة وتعبر عنها وعن وخصائصها، وصورة حياتها وأنشطتها والتي تساهم صورة المدينة العلامة في خلق الوعي بها.

ذو صلة