مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

استخدام تنسيق المواقع في الحفاظ على هوية المدينة

وفقاً لجهاز التنسيق الحضاري المصري فإن الهوية البصرية هي كل ما يعطي تَمَيُّزاً إيجابياً لطابع مدننا، ليشمل العناصر المعمارية والعمرانية والحضرية إلى جانب الخصائص الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ضمن علاقة التواصل والانتماء للمكان.
ويمكن تعريف تنسيق المواقع بأنه المهنة المختصة بدراسة تخطيط وتصميم وتنسيق الفراغات الخارجية في البيئة الطبيعية والعمرانية والتي تحقق وتوفر احتياجات أنشطة الإنسان في الفراغ الخارجي بما يتلاءم مع المحددات والخصائص البيئية بحيث لا يؤثر ذلك سلباً على الاتزان البيئي والأنظمة الأيكولوجية والخصائص البصرية والثروات الطبيعية للموقع، مع الأخذ في الاعتبار التشكيل الفراغي والطابع العمراني والاحتياجات الاجتماعية والسلوكية للإنسان في البيئة العمرانية.
لقد تعرضت البيئة العمرانية في مصر في الحقبة الزمنية الماضية لتدهور سريع، ظهر جلياً في تآكل الفراغ العام المفتوح داخل المدن، حيث أن الفراغ العمراني يمثل مكوناً مهماً من مكونات تشكيل الطابع العام للمدينة. فهذا هو الفراغ الذي من خلاله تتشكل وتتكون الصورة البصرية للمدينة عن طريق حركة المشاة والآليات.
لذلك كان الاهتمام الذي ظهر أخيراً بتنسيق بعض مدن مصر أمراً مثيراً للإعجاب والتشجيع، حيث تمت إعادة ترتيب وتنسيق وتطوير مجموعة من الميادين والمسطحات الخضراء في أكثر من مدينة، وكلها أعمال حَرَّكتها نِياتٌ طيبة.
لكن تنسيق المواقع لهدف تحسين البيئة العمرانية تعتبر منظومة متكاملة أعقد من ذلك بكثير، ولا تتم بعَجَل وتسرع، إنما يجب أن تخضع لدراسة متأنية وتخطيط مسبق ومحكم من خلال رؤية واضحة ومتكاملة، تأخذ في اعتبارها عوامل كثيرة بيئية واجتماعية واقتصادية، وأهمها الشخصية المعمارية للمدينة، والنسيج العمراني المتميز للأحياء والمناطق المراد تنسيقها. أما أن يتم الأمر من خلال اجتهادات فردية على مستوى صنْع القرار، أو اجتهادات فنية فردية على مستوى التصميم والتنسيق الخاص بالأعمال الفنية؛ فهذا أسلوب محفوف بكثير من المخاطر والمجازفات المُعَرَّضة في الأغلب الأعم للأخطاء وعدم تحقيق النتائج المأمولة بصورة مرضية. ونتيجة لعدم وجود إستراتيجية عامة لتنسيق المواقع الحضرية، متبوعة بمخطط عام لتنسيق المواقع على مستوى المدينة؛ يؤدي ذلك إلى ضَعْف المنتج العام لعملية تحسين البيئة العمرانية وتحويلها إلى عملية تجميل ليست مبنية على أسس علمية.
لذلك نجد أنه لا بد من وضع إستراتيجية متكاملة لتنسيق المواقع الحضرية للمدن القائمة، قبل الشروع في إقامة أي مشروعات تحسين للبيئة العمرانية. وذلك من أجل الحفاظ على الطابع العمراني والصورة البصرية للمدينة بصفة عامة، وألا تكون الجهود عبارة عن مشروعات تنسيق في صورة جزر مستقلة لا يوجد بينها أي ربط أو تنسيق. وهناك مجموعة من الأُسُس يجب أخذها في الاعتبار عند وضع هذه الإستراتيجية، منها: تحفيز اتخاذ القرارات بالحفاظ على الطابع العام للمدينة، والعمل على أن تكون جميع أعمال التنسيق العمراني تضمن الاستدامة للصورة العامة للمدينة، تحفيز خلق مناخ عام يدعو إلى تحقيق تصميمات متميزة في مجالات تنسيق المواقع الحضرية على مستوى المدينة. نشر الوعي الخاص بعمليات تنسيق المواقع ومدى تأثيرها على تحسين البيئة العمرانية بين السكان، وتحفيزهم على المشاركة بصورة فعَّالة في هذه المنظومة التنموية، وتحسين الصورة العامة للضواحي العمرانية عن طريق حماية المناطق الخضراء القائمة وتشجيع إقامة مناطق أخرى ذات تصميم متميز بها. والعمل على تحقيق الاتزان البيئي داخل المدينة عن طريق تصميم محاور خضراء وزيادة الرقعة التحضيرية بالمدينة، والعمل على حماية الثروة الخضراء للمدينة متمثلة في الحفاظ على الحدائق القائمة والأشجار النادرة والمناطق الخاصة بالحفاظ على الحياة النباتية والبيئية مثل الوديان وضفاف الأنهار.
ومن ثم لا بد من وجود مجموعة من المعايير لهذه الإستراتيجية، ويمكن تلخيصها في:
تحديد المناطق التاريخية بالمدينة، ورصد الطابع العام لها، والعمل على الحفاظ عليها وتنميتها. وضع الضوابط والمعايير لكافة المشروعات العمرانية الجديدة بالمدينة لتتواءم مع الطابع العام التاريخي للمدينة.
كذلك لا بد من الحفاظ على الثروة النباتية القائمة، وذلك عن طريق رصد وتحديد أنواع النباتات المختلفة الموجودة داخل المدينة، ووضع طرق ووسائل الحفاظ عليها. وكذلك تحديد الطابع العام لكل منطقة وتحديد الدور الذي سوف تلعبه النباتات في الحفاظ أو الارتقاء بالطابع العمراني للمنطقة. وتحديد أنواع النباتات النادرة والعمل على زيادة عددها، وكذلك إحلال واستبدال النباتات التي تعاني من الشيخوخة. بالإضافة إلى القيام بإدارة الحدائق العامة والفراغات العمرانية ودراسة جميع الحدائق الموجودة والفراغات العمرانية داخل المدن لتقويمها ووضع تصور على المدى الطويل للتطوير والحفاظ عليها بما يتلاءم مع الطابع العمراني للمدينة. مع الأخذ في الاعتبار البعد التاريخي للحديقة أو الفراغ العمراني. وكذلك الحياة البرية الموجودة بالموقع، والفرص المتاحة لخلق موائل جديدة للأنظمة البيئية المختلفة HABITAT، ودراسة إمكانية عمل ربط للمحاور بالمدينة بالحزام الأخضر حول المدينة. والعمل على دراسة الفراغات العامة على مستوى المدينة ومدى الحاجة إلى إعادة توزيعها، وتحديد المناطق التي تعاني نقصاً، والعمل على تزويدها بها في المخططات المستقبلية.
بالإضافة إلى تحسين البيئة العمرانية للمناطق والضواحي السكنية عن طريق تحديد المناطق الخضراء والفراغات العمرانية التي لها مردود مباشر على الطابع العمراني والصورة البصرية للمدينة ككل وللضاحية السكنية بصفة خاصة، ووضع تصور للحفاظ أو تحسين الحالة العامة لها. ووضع تصور عام لتحسين البيئة العمرانية للضواحي عن طريق وضع ترميز لأعمال تنسيق المواقع لكل منطقة على حدة تتضمن تحديد ما يلي:
1 - أنواع الأرضيات.
2 - أنواع النباتات.
3 - أنواع فرش الفراغات العمرانية.
4 - أعمدة الإنارة.
إن العمل على زيادة العناصر الطبيعية داخل البيئة العمرانية للمدينة لا بد أن يأخذ في الحسبان تحديد ورصد المناطق الطبيعية المتميزة داخل المدينة وتحديد عناصرها الطبيعية والعمل على تنميتها والحفاظ عليها. ووضع الضوابط والمعايير التي تكفل حماية هذه المناطق داخل المدن من أخطار التنمية العمرانية المطردة. ونشر الوعي البيئي بين السكان لإبراز أهمية وجود مثل هذه المناطق ودورها الفعال في تحسين البيئة. والعمل على تنمية مفهوم المحاور البيئية داخل المدن وحماية هذه المحاور إن وجدت وإقامة محاور جديدة في حالة وجود الإمكانية لذلك.
كل ذلك لا بد أن يكون مصحوباً بتفعيل المشاركة الشعبية عن طريق نشر الوعي بين السكان على أهمية تنسيق المواقع الحضرية والعمل على تحفيزهم للمشاركة في الحفاظ عليها. وتوفير المشروعات التي يمكن للسكان المشاركة فيها على مستوى مشروعات كبرى أو مشروعات تنسيق مواقع حضرية محدودة. والتنسيق بين الجهات الحكومية والجمعيات الأهلية والأفراد من أجل نجاح المشروعات الخاصة بتنسيق المواقع.
جميع ما تم ذكره سابقاً هو ما يعطي شخصية المكان، وتكامل شخصية وروح المكان، وهو ما يجعل هناك هوية تربط بين المكان وذاكرة كل من يتعايش أو يزور أي مدينة من خلال ما يثار أو يلتقط بحواس مريدي المكان. إن المدينة هي كائن حي، وكل مكون فيها يمثل عضواً من أعضاء الجسد، العمران والفراغ والإنسان. لذلك نجد أنه لا بد من العمل على استخدام إستراتيجيات تنسيق المواقع الحضرية من أجل إذكاء الهوية العمرانية للمدن حتى لا يكون لدينا المنتج غير المَرْضي عنه في وقتنا الحالي.


* أستاذ تصميم وتنسيق المواقع، عميد كلية التخطيط الإقليمي والعمراني، جامعة القاهرة.

ذو صلة