مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

إشكالية استدامة هوية المدينة العربية التاريخية (مدينة الكرك القديمة)

إن دراسة إشكالية استدامة هوية المدينة العربية التاريخية، من خلال تحليل وفهم مقوماتها وعملية تَشَكُّل أنسجتها العمرانية التي تعبّر عنها؛ متطلب أساس للتمكن من إدارة نمو وتغير هذه الأنسجة بطريقة فاعلة، تعتبر قيمتها التاريخية، وتراعي حقيقة أنها أنسجة حية تضج بالنشاط والحركة الإنسانية، تنمو وتتغير بشكل مستمر. ولهذا الغرض تم تناول مدينة الكرك التاريخية العريقة، في محاولة سريعة لقراءة نسيجها العمراني من حيث النشوء والنمو والتغير.
يعود تأسيس المدينة القائمة حالياً إلى العصر الحديدي الأول (1200 ق.م.) في منطقة يعود تاريخها إلى العصر البرونزي (2400 ق.م.)، حيث تمتعت المنطقة المؤابية بحضارة زراعية متقدمة مستقرة. تقع المدينة على رأس جبل ارتفاعه 960 م فوق منسوب سطح البحر، وتشرف على المناطق المحيطة، وخصوصاً البحر الميت والأغوار غرباً، تحيط بها الأودية من ثلاث جهات بشكل يشبه حدوة الفرس. وموقعها من أكثر المواقع إستراتيجية، من حيث إشرافه على المنطقة المحيطة، وما يترتب على ذلك من مزايا عسكرية.
تتشكل الكرك القديمة من نسيج عمراني أخذ نفس تشكيل القمة أو المسطبة الجبلية التي بنيت عليها، حيث ساهمت الخصائص الطبيعية (Physical Characteristics) للموقع في إعطاء كل جزء من المدينة تشكيله وبنيته الخاصة. فظهر النسيج في جوانب المدينة متراكباً بشكل مساطب، وفي أجزاء أخرى ظهر كمسطبة شبه مستوية. هذا التشكيل المتناغم مع طبوغرافية الموقع ساهم في إعطاء المدينة ككل نوعاً من الوحدة (Unity) في التشكيل العمراني. ولذا مهما تم الاختلاف والتغير في قضية الشخصية العمرانية المتأتية من طراز العمارة السائد فإن أحد مقومات الشخصية العامة ثَبُت وصَعُبَ تغييره.
يضم نسيج المدينة العمراني طبقات تاريخية تعود إلى عصور مختلفة، تدلل على دور سياسي وعسكري وثقافي مهم ومؤثر في المناطق المحيطة على مر العصور. وللمدينة أهمية اجتماعية، خصوصاً من حيث العلاقات الاجتماعية المتميزة بين المسلمين والمسيحيين والأحلاف العشائرية التي تشكلت في المدينة خلال القرنين الماضيين، وكذلك العادات والتقاليد، والتي أثرت مجتمعة بشكل كبير في صياغة نسيجها العمراني التاريخي ذي الهوية المتميزة. كما يرتبط اسمها بأسماء رجال عظام كان لهم أثر مهم في تاريخ المدينة والمناطق المحيطة على مر العصور: الملك ميشع المؤابي (840 ق.م.)، والطبيب الشهير ابن القف الكركي (1286م)، وسلطان باشا الأطرش قائدة ثورة الدروز في مطلع القرن الماضي. يضاف لذلك آثارها ومعالمها ومبانيها القديمة التي تمثل شخصية عمرانية ومعمارية متميزة.
عند دراسة أنماط نمو وتطور النسيج (Evolution Patterns) يجب التمييز ما بين مقياسين أحدهما كمي والآخر نوعي، وكليهما ذوَي علاقة بالعامل الزمني. قياساً على المعيار الكمي، أي فيما يتعلق بنمو النسيج العمراني ومدى امتداده على رقعة جغرافية ما؛ فإن للكرك القديمة وضعاً خاصاً مميزاً يعود إلى محدودية الرقعة الجغرافية الصالحة للتوسع والنمو، من حيث قابليتها للاستغلال العمراني. فالمدينة تقع على قمة مرتفع عالٍ، وتشكل هذه القمة ما يشبه مسطبة بمساحة محدودة جداً تقارب نصف الكيلومتر المربع، وبربط ذلك مع الزخم التاريخي للأمم والدول التي تعاقبت عليها من العصر الحجري النحاسي وزمن المؤابيين (840 ق.م.) وحتى يومنا هذا؛ نجد أن هؤلاء جميعاً كانوا مضطرين لإزالة الأبنية القديمة والبناء على أنقاضها وبالتالي التوسع (رأسياً). وقد كانت هذه الفرضية الوحيدة التي استطاع العالم الآثاري (A.H.Vanzyl) أن يفسر بها عدم وجود أية أبنية في الكرك تعود للفترة المؤابية القديمة.
أما التغير قياساً على المعيار الكيفي أو النوعي فقد بدأت شخصية الكرك العمرانية التقليدية كمركز عمراني بالتشكل في الفترة ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. وقد تظافرت عدة عوامل في إعمار المدينة بشخصيتها التقليدية.
يُعتبر اهتمام الحكام العثمانيين ومنظومتهم التخطيطية والعمرانية من أهم هذه العوامل، ويتضح تأثيرهم بشكل بارز بعدما أوعزت حكومة الأستانة عام 1894م لوالي الشام رؤوف باشا في العمل على احتلال المنطقة، إذ عين حسين حلمي باشا متصرفاً للواء الكرك، حيث بنى داراً للحكومة مقابل القلعة، وجامعاً إلى جوارها (المسجد الحميدي حالياً)، وعمل على إصلاح القلعة لتكون مسكناً للجنود. بعده تولى رشيد باشا، وكان محباً للعمران، فأنشأ بناية المدرسة الموجودة في الزاوية الشمالية الشرقية من المدينة عام 1897م (مدرسة الكرك الثانوية)، وقد انتزعت حجارتها من أسوار المدينة، وتعتبر الآن من العمائر المميزة في الكرك، وهي التي خرّجت العديد من الشخصيات المهمة والمؤثرة في تاريخ الأردن الحديث. أما فيما يخص المبادرة الشخصية للحكام والضباط العثمانيين فقد كان لهم أثر يذكر في عمارة المدينة، ومثال ذلك ما قام به كمال بك ضابط من بناء مجمع من البيوت بالقرب من القلعة، لأنه ظن بأنه سوف يستقر لنهاية حياته هناك، وما زالت هذه البيوت قائمة ومستعملة لحد الآن.
بعض قبائل الكرك التي حضرت من فلسطين وجنوب سوريا كان لها دور مهم. ويمكن الاستدلال ببعض الملاحظات التي كتبها الفرنسيان جاسان وسافيناك عام 1912م، حيث ذكرا بيوت شيوخ المجالي ضمن الأبنية المهمة في المدينة، والمجالي أصلاً قبيلة هاجرت إلى الكرك من الخليل. كذلك الأمر بالنسبة لبعض القبائل المسيحية التي أتت من فلسطين (بيت لحم وبيت جالا) والتي ساهمت في إعمار المدينة، حيث لوحظ وجود تشابه كبير ما بين بيوت القناطر الكركية ومثيلاتها في بيت لحم، هذا إذا ما أضفنا إلى ذلك ما يذكر عن حضور بنائين من بيت لحم وبيت جالا في فترات مختلفة من القرن التاسع عشر والعشرين، ومنهم نقولا البندك الذي بنى بعض البيوت في الحي المسيحي والتي يعود بعضها للعام 1885م، إضافة لكونه المشرف الرئيس على تجديد بناء الجامع العمري عام 1902م. وقد استعمل أولئك البناؤون تقنياتهم المحلية المتوارثة في منطقة تكاد تتطابق مع مناطقهم الأصلية، من حيث العادات والتقاليد الاجتماعية والظروف البيئية وما أفرزته من مواد البناء.
ساهمت الكنائس والإرساليات المسيحية في إعمار المدينة، يذكر تريسترام بأنه التقى بقسيس يوناني كان مديراً للمدرسة الإغريقية، وقد تلقى تعليمه في القدس، وكان ذلك عام 1872م. أما جاسان وسافيناك فقد ذكرا دور الإرساليات بين ما ذكراه من عمارة الكرك عام 1912م، ويدعم ذلك ما ذكره جوبسر أن المبشرين المسيحيين اللاتين والبروتستانت أنشؤوا مدارس في السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر. واليوم لا يزال مجمع كنيسة الروم الأرثوذكس، ومقر البطريرك (المريسية)، والمدرسة (1849م)، ومجمع كنيسة ومدارس اللاتين (1900م)، والمستشفى الإيطالي (الطلياني) (1936م)؛ والعديد من العمائر شاهداً حياً، حيث لاتزال مستعملة وبحالة جيدة لحد الآن.
أما الأسلوب التقليدي المحلي في العمارة فقد كان سائداً قبل التأثيرات المذكورة، وهو يتشابه، بل يكاد يتطابق مع أسلوب البناء في مناطق فلسطين. هذا الأسلوب يتضح من خلال الوصف الذي قدمه بعض الرحالة في فترات مختلفة من القرن التاسع عشر ومنهم تريسترام.
بالرغم من احتفاظ المدينة القديمة بجزء من نسيجها العمراني التاريخي إلا إن حالتها اليوم تختلف عما كانت عليه في الماضي القريب، حيث فقدت جزءاً كبيراً من مقومات شخصيتها التاريخية، إضافة إلى تغير كبير في نسيجها الاجتماعي أدى إلى تغير أساسي في مضمونها الثقافي ومظهرها ومدلولاته، وبالتالي هويتها، نتيجة لعدة عوامل أهمها مستوى الوعي بأهمية القيم التي يختزنها النسيج التاريخي وغياب الخبرات التقنية في مجال الصيانة والترميم وضعف الإدارة الحضرية والتخطيط الحضري المستدام (للمدينة القديمة ومحيطها الحضري والطبيعي) والعوامل الاقتصادية، مما يجعل منها إلى حد ما مجرد مدينة عصرية ذات نسيج عمراني يعاني من التشوه البصري، تفتقر إلى الهوية المميزة ولا تختلف عن غيرها، لذلك تعتبر المحافظة على النسيج العمراني لمدينة تاريخية كالكرك عملية مهمة وفعالة ثقافياً وتاريخياً واقتصادياً وعمرانياً، إضافة إلى أهمية الجانب التقني والمهني الذي يعتبر مهماً لمهن العمارة والتخطيط.
مدينة الكرك كنموذج للمدن العربية التاريخية تحتاج اليوم إلى إدارة حضرية حصيفة ضمن إطار مؤسسي يضمن استدامة عملية التخطيط وما يرتبط بها من ضوابط ومعايير للتمكن من الحفاظ على ما هو موجود ومحاولة استعادة ما يمكن من مقومات شخصيتها المتعددة والمتداخلة، وإدارة وتوجيه عملية نمو النسيج العمراني استناداً إلى منظومة القيم الثرية التي تختزنها هذه المدينة.

ذو صلة