مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

أديب الإسفنج

الحالة الطبيعية المعتادة أن يبدأ المبدع الجديد في تقليد من سبقه من المبدعين، بالذات أولئك الذين لهم هيمنة على المشهد الإبداعي، ولعل بعضهم لا يمثل حالة إبداعية متفردة! لكن، بسبب عوامل معينة كانت لهم الغلبة والحضور الدائم على مستوى الإعلام، فالناشئ الهجين قد يحذو حذوهم ويقلد أساليبهم بل سيحاكيهم حتى في سلوكهم الشخصي، وسيتبنى مواقفهم من المدارس الأدبية فيما يرتبط بالأصالة والحداثة، وهذه حالة معيبة تجعل المثقف أشبه بالببغاء، أو إبريق الشاي الفارغ الذي يملؤه صاحبه بأي نكهة شاء! ومن يعيش هذا الحالة يمثل صورة (أديب الإسفنج) الذي يمتص كل الماء/ الفكر، من حوله ويمتلئ بغيره، لذا يكون نتاجه صورة معدلة من فكر الآخرين، لدرجة أننا نراه في لباس غيره.
ولتأكيد حالة السذاجة في بعض الأدباء أنك تجد بعضهم يأنس عندما يُقال له: قرأنا لك وكأننا نقرأ لفلان، أو سمعنا نصك وكأننا نسمع فلان! فهل توجد حاجة لأن نجتمع في محفل أدبي لنستمع للصدى كما يشير إلى ذلك المتنبي في بيت عظيم يناسب حديثنا يقول فيه:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني     أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
نعم، قد نختلف مع المتنبي في نظرته الاستعلائية هذه! لكنها بلا شك تؤكد حالة الاعتداد بالذات وهي حالة مطلوبة تحكي القناعة بالمُنتج الذي يقدمه الأديب مقارنة بما يراه أمامه.
وبداهة أننا نقبل حالة التقليد لأي مبدع في بداياته. لكننا، نستهجنها إن لازمت مسيرته الإبداعية، فالصحيح أن يكون المبدع مرآة لنفسه، لا مرآة لغيره.. أليس كذلك؟
فحين تكون نسخة هجينة من غيرك، فأنت تعيش حالة سلبية تجعلك أقرب لمن يحيط نفسه بشرنقة حتى يختنق بسببها! والصحيح أن تبقى قليلاً في الشرنقة حتى تصل إلى مرحلة النضج ثم تحلق في الفضاء الذي لا يحده أي سقف أمام إبداعك.
وقد نتساءل هنا ونقول: كيف نصنع كتاباً مبدعين لهم أصواتهم وأساليبهم الكتابية الخاصة والمتفردة؟
أتصور أننا سنشهد أصواتاً مغايرة وعزفاً منفرداً حين نعلي من حالة النقد في وسط المشهد الثقافي والأدبي بشكل عام، فكلمة (أحسنت)، وعبارة (بارك الله فيك)، إن لم يصحبهما نقدٌ جميلٌ، ستجعلان الأديب يراوح مكانه! وعلى الأديب أيضاً ألا يقتصر على أنموذج إبداعي يعيش في كنفه أثناء عملية التلقي، بل عليه أن ينهج حالة من الانفتاح الرشيد على مختلف المدارس الأدبية وهو ينهل من النصوص الإبداعية مع اطلاعه على النقد الذي يُكتب حولها، ليستقيم بناؤه الأدبي وتتقوى ذائقته النقدية. ومن خلال متابعة بسيطة للمشهد الأدبي وجدت بعض الأدباء الذين لم يتجاوزوا قراءة منتج أديبهم الأول، لذلك بقوا أسرى لتجربته وكأنها النجم الذي لا يُطال.
فالإبداع والعزف المنفرد يتأتى مع القراءة الجادة والتجريب المستمر الذي يتجاوز المألوف السائد في المشهد الأدبي، وهذا يتطلب من الأديب أن يعتد بعمله ويثق بأن الأدب الحقيقي لا يمكن قولبته وفق ذائقة أديب سبقه، مهما علا شأنه، وأنا على قناعة تامة بأن البعض من النقاد هم أشبه بالبالونات التي أسهم في نفخها أُسارى فخ التقليد الذين هم أشبه بالعبد الذي يأتمر بأمر سيده، ومن هذا شأنه فليس جديراً بأن يبقى حاضراً في المشهد الأدبي كمنتج للأدب وإن شاء، فليكتفِ بأن يكون (أديب الإسفنج) أو كوب الشاي الذي نملؤه من الإبريق.

ذو صلة