مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

المنهج الرمضاني بين الوجداني والجسدي.. لا يشبهه شيء آخر

إن العبادات والفرائض بأنواعها، جاءت لما فيه خلاص وسكينة للإنسان، ترفعه عن بقية الخلائق، فتصب في استقراره النفسي والجسماني، وتشمله بالرحمة الإلهية والطمأنينة، لتكون غيضاً من فيض الرسالة الإسلامية إلى الناس كافةً.
وقد أكرمنا الله بشهر العتق والإحسان، يجود فيه على عباده بأنواع الكرامات، يبتغون فضله ومرضاته، وعلى ألسنتهم ذكره، في السحور والإفطار وقيام الليل، فيأتي الشهر الفضيل ليشذب النفس الإنسانية، بما فيه هدايتها وثباتها، وإن المتفكر في الصيام يجد فيه عبادة متفردة بجوهرها ومكانتها، تعمق الصلة بالله حباً وخضوعاً لعظمته، وفي هذا الحديث الشريف: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به). فيرتقي فيه الإنسان بفهمه، ويدرك ويطبق الحقائق الإلهية التي لطالما كانت من أجل الإنسان وعافيته، وقد اختص الله شهر رمضان بحكمة، فلا يثبت في زمن، وإنما ينتقل بين فصول العالم كلها برؤية الهلال، وينثر فيها من بركته.
ومن المعروف أن أداء العبادات يليه شعور الراحة والرضا، ففعل الصوم بالمقام الأول فعل تعبدي، نبحث فيه عن الثمرة (الأخروية)، ونسعى في ميزان الحسنات، ولعل فريضة الصوم تمثل التزاماً حقيقياً، كونها تتطلب يقظة في الضمير، ونمواً للوازع الديني والأخلاقي، إذ إن في الصوم بندان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهما الصوم المعروف الظاهر على تمام شروطه، التي نتعبد الله بها، والآخر هو صوم النفس عن كل ما يلحق الآثام بها، وإمساكها وارتفاعها عن ذلك، وتشمل الظاهر أو المخفي عن العين (كالغيبة والنميمة..)، وهي المستورة التي لا يعلمها إلا الله.
فتنتظر الأنفس ظمآنة شهر رمضان المبارك، تأمل فيه محو الهفوات، والإقلاع عن كل ما يسوؤها، ففي الصيام معنى عميق، يرفع عتبة الصورة الشعورية الحية، والتي تساهم بدورها في رفع المستوى الإيجابي بالذات، لأن أجواء الصيام، وما يرافقها من قراءة أو سماع تراتيل القرآن، كلها أمور تبعث على اطمئنان القلوب، ومنه قوله تعالى: (وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تَعلمون).
ونلاحظ أن نمط الحياة بالمجمل، تخلله ثقافة المضمون المادي، الذي يضع رغبات الإنسان في بهرج الأشياء وسطحيتها، ويسهم في فشل تأسيس معنى حقيقي للحياة، وطريقة عيشها، وما يرافقه من تبعية الانجرار، وانشغال النفس بكل ما يرهقها -المهم وغير المهم-، وبذلك يكون الصيام منجى، فهو يضع البعد النفسي المعرفي والبعد الجسدي في بوتقة واحدة، والمتأمل في النصوص الشرعية التي أصلت عبادة الصيام، يجد أنها تحصن الإنسان ليكبح جماح نفسه، ويتغلب على كل ما يجعله في دائرة التعلق السلبي والخضوع.
وهناك العديد من الدراسات النقدية، التي تناولت طرق العيش الحديثة، وأشارت إلى أن رغبات الإنسان وعاداته المستهلكة الدائمة، تطغى عليه، وتعلو فوق كل الأشياء والقيم الأخرى، رغم أنها تكون زائفة في أغلب حالاتها، ولكنها استحوذت مكانة لديه، بسبب أيديولوجية الإشهار، فينجذب لاهثاً خلفها من أجل سد حاجاته، وهكذا يفقد الإنسان تركيزه، وقدرته على ضبط أساسياته وتحديدها، ليأتي الصوم ضمن سلسلة العلاج، وتعويد النفس على الحلم والأناة، فالانخراط في موجة الاستهلاك الدائم، يؤدي إلى الغرق بالاكتئاب والإحباط، بسبب تزاحم الأفكار والمتطلبات، وفقدان القدرة على التحكم بأي منها، وبذلك يتضح لنا أن الصوم تدريب فاعل على التغيير السلوكي، والسيطرة على اعتمالات النفس وانفعالاتها.
ويذكر في المنهجية (السيكوسوماتية)، أن المعرفة والأفكار تؤثر جسدياً، فالاعتقاد الواهم بالمرض يؤدي إلى الوقوع فيه، وفي هذا قوة البعد النفسي وتأثيره، وانطلاقاً من هذا، فإن التفكير في روحانية الصيام وفرصة المغفرة والتوبة، تعطي شعوراً بالأمل، وإقبالاً على الاجتهاد في العبادات، فتقتل مشاعر اليأس والقنوط. كذلك في المنظور القرآني، نجد أن التغيير الاجتماعي مرتبط بالتغيير النفسي وفي ذلك الآية الكريمة: (إنَّ اللهَ لا يُغيُّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّروا ما بأنفُسِهِم). فالعلاقة تبدأ من الضمير الحي المتأثر بدين الله وعباداته، وهو الأكثر نفعاً للمجتمع، لتكون العبادة عملاً نافعاً يتقرب فيه الإنسان من ربه، يبتغي الفضيلة، التي يندفع بها من رغبة داخلية، ويظهر تأثير الصيام جلياً على قيمة الفضيلة عند الإنسان، لتكون شغله الشاغل الذي يتخلق ويتدثر به، ولكي تظهر الفضيلة جلية واضحة، لا بد لها من أن تكون وسط التفاعل الاجتماعي، بما فيه فائدته.
وشهر رمضان بالمجمل هو شهر التفاؤل بالرحمة والبركة والعافية، فالإسلام يعلي من قيمة الشخص المتفائل، لأنه راسخ الإيمان، مستعد للعطاء، يضفي على ذاته وعلى الآخرين السعادة والإيجابية، فلولا التفاؤل ما نجح الأنبياء في تغيير الناس، وحثهم على الهدى بعد ضلالهم. ثم إن الصيام يصقل جانب التواضع لدى الإنسان، ويكسر العنجهية وكبر النفس، فيجعله ينظر بعين القانع الزاهد.
بالإضافة إلى أن الصيام مقترن بتعديل الأفكار نحو الحياة وعيشها، وتمييز الضروري لها من المثقل عليها، فهو منهج متكامل يؤهب النفس لنظام حياة مضبوط، حتى في الجانب المادي، فلم يكتف بتنظيم الجانب الروحي التعبدي، بل دخل في صميم الحياة كلها، بالإضافة إلى التطبيب بالصوم، ففيه تتحسن جميع القوى العضلية والداخلية الوجدانية، حتى المحاكمة العقلية والذاكرة والبديهة، فالصيام لا يعني التجويع، بل إنه جانب من جوانب الراحة للجسم، أو ما يسمى بالعطلة الفيزيولوجية، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا تصحوا)، فحين لا يكون هناك عمل هضمي ينشغل به الجسم، فإنه يستخدم الوقت المخصص للهضم في عملية تطهير عام. ولم يتوقف الصيام على المعنى الجسدي فحسب، بل تعداه إلى صحة النفس والعقيدة، والصحة النفسية والاجتماعية.
حتى من لا يملكون القدرة على الصيام لمرض وما يرافقه من أدوية، أو عارض ما، يمارسون صيام الجوارح، فيصيبهم شيء من فضل الشهر الكريم، ويسلكون منهج عمل الخير، والزكاة، وتلاوة القرآن، إذ إنه فعل متحرك تنتقل فائدته من صاحبه الصائم لمن حوله، يحرك ويغير ويجدد، مما ينعكس على البيئة المحيطة، فيكون عاملاً من عوامل رقي المجتمعات روحياً ومادياً.
ومن عظيم فضل الصيام، أن الغدد الصماء والجملة العصبية وأعضاء الجسم بالمجمل، ترتاح خلاله، باستثناء أجهزة الإطراح التي تعمل بشكل أكبر كي تخلص الجسم من السموم المتراكمة والأنسجة التالفة المريضة داخله، أيضاً وظيفة التنفس تتحسن بشكل كبير أثناء الصيام، ويمكن ملاحظتها بسهولة عند مرضى الربو، ليكون دواءً لامثيل له، ولا يشبهه شيء آخر.
والحقيقة أن الشخص الصائم في أيام إفطاره، يكون معتاداً على تناول أطعمة أو مشروبات معينة كالقهوة والشاي، وحين يتركها فجأة، تؤثر على قدراته قليلاً، ولكن هذا يحصل في الأيام الأولى المعدودة من الصيام، أما بعد، فسيلاحظ نشاطاً في جميع قدراته الفكرية والذهنية، الأمر الذي يوفر للدماغ فرصة العمل بدم نقي، مما يعطي قوة أكبر في التفكير، كذلك بالنسبة للبصر والسمع والشم، حتى الجلد يجدد نفسه بسرعة أكبر، وقد استخدم العلماء المسلمون الصيام كعلاج للعديد من الأمراض، فابن سينا كان يستخدمه في علاج الجدري.
وهكذا فإننا أحوج ما نكون إلى المنهج الرمضاني، وسموق منزلته، ليكون برنامجاً ارتقائياً، بأبعاده التي ندركها ونشعر بها، فما يتصف به الإنسان حال صومه، يقوم مقام النعوت الربانية المنزهة عن حكم الطبيعة، وبذلك يبلغ الصائمون صفة الكمال في العمل، ويظفرون بما لا مثيل له.

ذو صلة