مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

أدب الحرب يرتب خسائر الإنسانية

الحرب تعبير عنيف متوحش يخالف الفطرة الإنسانية، يلجأ فيها الإنسان إلى استخدام فظيع للسلاح، الخديعة، واقتراف المجازر من أجل سفك المزيد من دماء الأبرياء، وقد شغلت ظاهرة الحرب بال المفكرين، الفلاسفة والمبدعين، كمحاولة للغوص في أعماق النفس البشرية، الطاعنة في الغموض حد الوضوح، ولعل أشهر الروايات التي تناولت ثيمة الحرب (الحرب والسلام)، للأديب الروسي الشهير ليو تولستوي، والتي تروي قصة غزو نابليون لروسيا القيصرية، ويطلق على الرواية لقب (إلياذة العصور الحديثة)، وقد كتب عنها تولستوي: «إنها ليست رواية، بل إنها أقل تماماً من قصيدة، ومع ذلك فهي أقل من تاريخ يعرض الأحداث وفق تسلسلها الزمني. إن الحرب والسلام هي ما رغب المؤلف في التعبير عنه، وما كان يستطيع التعبير عنه بالشكل الذي جرى به»، وقد قدمت الرواية صورة عن تحولات المجتمع الروسي، من خلال مجموعة من النبلاء الروس، راصدة أفراحهم وهزائمهم، أمانيهم وانكساراتهم، صراعاتهم وأحلامهم، وكتبت نشيد الإنسان الذي وأدته الحرب والفوارق الطبقية.
(الحرب والسلام) بمثابة (المعركة الأدبية الكبرى في عالم الأدب)
في الأدب العربي، سنجد حضوراً قوياً لثيمة الحرب عند يوسف القعيد وبعض مجايليه، الذين عايشوا زمن النكسة، وأشهر هذه الروايات: (الحرب في بر مصر) للقعيد، التي تحولت إلى فيلم سينمائي ذائع الصيت: (المواطن مصري)، بطولة عمر الشريف، عزت العلايلي، صفية العمري، وقد اختيرت هذه الرواية ضمن أفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين، ويمكن أن تصنف ضمن (أدب النقد الاجتماعي) أو الواقعية الاجتماعية الجديدة، وليس أدب الحرب فقط.
تفضح رواية القعيد سرقة الوطن من أحلام الفقراء، حيث يخوض الشاب (مصري)، الفلاح المصري المعدم الحرب بدل ابن العمدة المدلل، مقابل قطعة من الأرض، تقاوم بها الأسرة الفقيرة وعثاء الحياة، وحين يستشهد ابن الفلاح، يتم تكريم ابن العمدة، الذي لم يخض الحرب!
في الأدب العالمي، حضرت الحرب في لون سردي جديد، مازال غريباً في المشهد الأدبي العربي، وهو القصة القصيرة جداً، في نص: (الروتين) لماريو بينيدتي: «في أواسط عام 1974 كانوا يفجرون في بوينوس آيرس كل ليلة عشر أو اثنتي عشرة قنبلة. يُفرِّق بين القنابل نوعُها، ولكن يجمعُ بينها أنها كلها تنفجر، وعليه تحول الاستيقاظ في الثانية أو الثالثة فجراً على أصوات انفجارات متتابعة إلى شبه أمر تعوده حتى الأطفال.
تنبه صديق لي يعيش عند الميناء إلى هذا التعود، بعد وقوع انفجار شديد ذات ليلة بالقرب من شقته مما أيقظ ابنه البالغ خمسة أعوام مذعوراً. وسأل: ما هذا؟ ضمه صديقي بين ذراعيه وربت عليه لطمأنته ولكنه، امتثالاً لمبادئه التربوية، قال له الحقيقة: «إنها قنبلة».
فقال الطفل: «حمداً لله!. ظننته رعداً»».
وإذا كان ماريو بينيدتي يغلف هذه الدراما الإنسانية بسخريته السوداء المعتادة، فإن غابريال غارسيا ماركيز يكتب عن قسوة الحرب بأسلوبه المعهود، المغلف بمسحة إنسانية سامقة وشحنة عاطفية مكثفة، فتدرك أنه لا يوجد منتصر ولا مهزوم في الحرب، لأن الخاسر الوحيد هو الإنسانية دوماً، كما تشي بذلك قصته القصيرة جداً: (الجندي المشوه)، والتي تبدأ باتصال جندي أرجنتيني، عائد من من جزر فوكلاند بعد نهاية الحرب بأمه من هاتف الفوج الأول بباليرمو، ليطلب موافقتها على أن يصطحب معه أحد زملائه إلى البيت في بوينوس آيرس، لأن عائلته تسكن في مكان آخر، أخبر أمه أن المجند يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً، وقد فقد ساقه وذراعه في الحرب، وهو أعمى أيضاً.
على الرغم من سعادة الأم بعودة ابنها، وبأنه مازال على قيد الحياة، فقد أجابته في ذهول بأنها لا تستطيع تحمل رؤية المشوه، ورفضت قبوله في منزلها، فقطع الابن الاتصال، وأطلق النار على نفسه.
حين نشرت هذا النص، وبلغته الأصلية (الإسبانية) في منصة فيسبوك، مكتفياً بالترجمة الآلية، التي يتيحها التطبيق، تباينت القراءات لهذا السرد السهل الممتنع، لكن القراءة الأكثر قسوة أشارت إلى أن الابن اختبر مشاعر أمه، لم يصارحها بأنه ذلك المجند المشوه، رأفة بأمومتها، التي نبذت هذا المسخ.
(أزهار عباد الشمس العمياء)، رواية إسبانية قاسية، واحدة من الروايات التي طرقت باب هذه الفظائع، التي تدين وحشية الإنسان، الذي لم يعد مجرد (ذئب لأخيه الإنسان)، كما عرفه الفيلسوف توماس هوبز، بل تحول هذا الإنسان إلى ضبع يقتات على الجيف.
الطريف في أمر رواية ألبيرتو مينديس أن أكتشف أنها بقيت مخبأة تسع سنوات في أحد الأدراج، وحين شرعت في قراءتها، لم أستطع أن أكملها، بسبب أهوال الحرب الأهلية وفظائعها، على الرغم من لغتها الشاعرية والترجمة الرشيقة للمغربي عبداللطيف البازي.
تحتوي الرواية على أربعة فصول، أربع شخصيات وأربع هزائم، تضيء بشكل باهر عتمة مرحلة الحرب الأهلية بإسبانيا في عهد الاستبداد الفرانكوي. «تعتبر الذاكرة والألم موضوعين مركزيين في الرواية، التي تتسم بالتفاصيل البسيطة أحياناً، والانفعالات العميقة والعنيفة، وصراعها المرير مع ماضيها وتجاربها أحياناً أخرى»، كما جاء في تظهير الكتاب.
من أجواء الرواية، نقرأ من الفصل الثاني أو الهزيمة الثانية (مخطوطاً عثر عليه في النسيان): «لم أتعلم أن أراوغ الحزن، والحزن فصل عني إلينا بمنجل. بالإضافة إلى أني لا أتقن سوى الكتابة وحكي القصص. لا أحد علمني أن أتحدث حين أكون وحيداً، ولا أحد علمني أن أقي الحياة من الموت. أكتب لأنني لا أريد أن أتذكر كيف تقام الصلاة، ولا كيف توجه اللعنات.
كيف لقصة بهذا الجمال أن تنتهي في جبل يهزه الريح؟ نحن الآن في شهر أكتوبر، غير أنه في هذه الأعالي يتحول الخريف كل ليلة إلى شتاء».
جدير بالذكر أن هذه الرواية نشرت في أكتوبر 2013، عن منشورات (إبداعات عالمية) الكويتية، وقد انتشلتها من غياهب النسيان، بعد عام كامل، تذكرتها في شهر آثر أن يدخل التاريخ كشهر للأهوال والفظائع...
كل أكتوبر، وأنت بسلام أيتها الإنسانية!

ذو صلة