مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الحاجة إلى التفكير في مستقبلنا

تتداخل في دراسة المستقبل حركة التاريخ والمجتمع، وتتشابك في إطارها معادلات الماضي والحاضر والمستقبل، بحكم أن الوقوف عند خيارات الإنسان لمستقبله المنشود يغني الباحث بأكثر من مفردة علمية، بالنظر لسعة التفكير المستقبلي، وضرورة إشباعه بتجارب الحضارات والمدنيات التي تستوعب أكثر من بعد وحقل. وتمهد الدراسات المستقبلية من خلال فهم حركة الأمم والحضارات القديمة لاكتشاف المشتركات الفكرية والإنسانية ذات العلاقة بالتفكير المستقبلي ذي الأبعاد المشتركة محوراً للتقارب الإنساني وأرضية للحوار.
لم يسبق للمستقبل أن اعتبر (علماً) إلا في العصور الحديثة، وفي بدايات القرن العشرين على وجه التحديد، فالعلوم الحديثة فتحت الباب على مصراعيه لنشوء ما يمكن تسميته بعلم (السيطرة على المستقبل) أو (المستقبلية) كرؤية نظرية علمية وموضوعية للغد الإنساني. وهذا التغير السريع يعني أن المستقبل قد يكون -أو سيكون- شيئاً آخر مختلفاً عما كان موجوداً عند الأجيال السابقة، وهكذا سوف يبدو عالم المستقبل مكاناً غريباً عن وعينا وذاتنا وحضارتنا، ورؤية أخرى جديدة علينا ما لم نتجهز له ونهيئ أنفسنا لدراسة عناصره الأساسية، لأننا كمجتمع عربي- إسلامي يتطلع لبناء حياته النموذجية الجديدة بالارتكاز على قيمه الحضارية، ويريد أن يمتلك بعض آفاق المستقبل بوعي وثبات، لابد أن ينظر لماضيه وتراثه المعرفي نظرة نقدية تأخذ بإيجابياته وتطرح سلبياته، حتى يصل إلى مستوى مقبول من التطور والوعي الذي يؤهله لأن ينهض ذاتياً بأعباء ومتطلبات حاضره الذي يجب أن يشكل بعد تنقيته وغربلته من الأفكار والطروحات الضارة قاعدة أساسية لبناء المستقبل الموعود.
من هنا يتضح أن (المستقبلية) هي دراسة وتأمل وتوقع وبحث علمي- موضوعي دقيق لإحداث الغد العربي- الإسلامي المفترض (الممكن) الحدوث في ضوء تسارع تطورات العلم والوجود، ومدى قدرة المجتمع العربي الإسلامي على الاستجابة لمجمل التغيرات والتطورات الكونية، وهذا يتطلب القدرة على قراءة وتحليل وتنظيم المعطيات والأحداث الراهنة من خلال القيام بعمليات البحث والاستقصاء والاستقراء وإجراء الاستبيانات العملية، في ضوء خبراتنا وطاقتنا ومواهبنا السابقة، والحالية بما يحقق لنا تطلعاتنا المستقبلية في كل اتجاه. وعليه فاستشراف المستقبل لا علاقة له بالرجم أو التكهن مادام يعتمد على أساليب الاستشراف العلمي.
الثابت أن المجتمع العربي-الإسلامي مازال يعاني غياباً شبه تام للرؤية المستقبلية في معظم مؤسساته، وفي كثير من مظاهر حياته بل وفي بنية تفكيره، وما العدد القليل من الدراسات المستقبلية بالعالم العربي- الإسلامي إلا تعبير عن البؤس المعرفي الذي تعانيه تلك الدراسات التي لا تخرج معظمها عن النطاق الأكاديمي الضيق، ولا تكون جزءاً من نسيج التفكير الاجتماعي العام، أو عن الممارسة الفعلية سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى الأفراد، ولم تتغلغل بعد كثقافة ومنهج تفكير في الشركات والمؤسسات العامة والخاصة، ناهيك عن افتقارها إلى النظرة الشمولية المتكاملة، مع ارتكازها على قاعدة علمية محدودة من البيانات والمعلومات.
ومن الصعوبات المنهجية التي تعترض انتشار ثقافة الدراسات المستقبلية بالعالم العربي-الإسلامي غياب الرؤية المستقبلية في بنية العقل العربي، وطغيان النظرة السلبية إلى المستقبل في ثقافته، كما أن الفكر العربي مفتون بإعادة إنتاج الماضي أكثر مما هو مهموم بقراءة المستقبل أو مشغول بإنتاجه وصناعته. هذا بالإضافة إلى غياب التقاليد الديمقراطية للبحث العلمي العربي، وهي تكاد تكون مفقودة حتى الآن في الثقافة العلمية العربية، وهي تقاليد الفريق والعمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي والتسامح الفكري والسياسي وقبول التعدد والاختلاف.
رغم كل ما قلناه فالصعوبات التي تعترض انتشار وتوسيع ثقافة الدراسات المستقبلية بالعالم العربي-الإسلامي لم تصادر جهوداً قليلة في البلدان العربية يمكن البناء عليها، ولم تحجب مبادرات شجاعة قام بها أفراد أو جهات هنا أوهناك، وفي هذا السياق نجد المفكر المغربي المهدي المنجرة (1933 - 2014م) المختص في الدراسات المستقبلية، والذي بذل جهداً كبيراً من أجل استشراف المستقبل استشرافاً مستقبلياً علمياً يستند إلى أدق مناهج المبحث المستقبلي وآلياته، وله مواقف عدة تجاه تحديات الواقع وما تطرحه من أخطار على مستقبل العالم العربي الإسلامي مثل النمو الديمغرافي المتزايد والاقتصاد والطاقة البديلة والعلوم التقنية والإعلام والاتصالات، فضلاً عن الديمقراطية والتعددية ومواقفه أيضاً من الحوار، جنوب- شمال، والغزو الثقافي، والنظام العالمي الجديد والعولمة.. وعلى كل حال فقد جعل المنجرة المستقبل محور تفكيره، ولم تخرج جهوده عنه.
مجمل القول إن التفكير المستقبلي يستند إلى الوقائع والمعطيات بعيداً عن الأهواء، ومن سمات هذا التفكير وعي المشتغلين به وعياً تاماً بأهمية الزمن، فهم يدركون أن لمشكلات اليوم جذوراً في الماضي، وأن تلك المشكلات لا تنشأ بين يوم وليلة، وإنما تتكون تدريجياً وبصورة لا يلحظها غالباً الإنسان العادي.

ذو صلة