مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

آلة الزمن المبوصلة

قالت نفسي وهي تحاورني: أما زال للماضي والحاضر محل؟
قلت: آلة الزمن المبوصلة تتسع للجميع، ألسنا نحن نتاج مستقبل فائت، حتى وإن تحدثنا إلى حكاية كان يا مكان فإن مستقبل الإنسانية معلق برقابنا، من قبلنا زرعوا فأكلنا، ومهمتنا أن نزرع ونصنع لمن بعدنا.
هذه سنن كونية ترفض الفوضى الخلاقة والعشوائية في التفكير أو الاستثمار، فلن نكون يوماً في صف من سرقوا تراث الشعوب، أو استغلوا ثرواتها لهذا السبب ذاته هو الحرمان من رؤية واستشراف المستقبل، تذكرين يا نفسي من أحرقوا المسارح وهجّروا العقول وجزّوا الأعشاب، ليس ما أتحدث حديث شجون أو ضرب خيال. كلنا كلنا نحب الغد الأفضل المنشود، ما أروع أن يكون مستقبلنا بين أيدينا بحرية!
قالت نفسي: أفضل ما نفعله لم نفعله بعد، القضية في أساليب الإنتاج الثقافي والمادي التي لم تدرك، فإلى الآن رساميل العالم وتقنياته توزعت والأزمات والطوارئ أدت للوقوع في مطبات منها على الأقل -التغير المناخي، وسباق التسلح والتقليد الأعمى والمجاعات، حتى وصلنا إلى عصر (الما بين والما قبل والما بعد). أنا مضطرة لتحديد ألفاظي فقضية علم المستقبل لا تفكك ولا ينفعها تغيير دم أو قطع تبديل.
قلت: الأزمة موجودة، كنا تارة ننظر للماضي على أنه تراث، ونتجاهل أنه يسكننا، ثم قلنا لدينا أزمة التراث والعصر، فقلت لهم: غَيّروا العنوان، اجعلوه (التراث والمستقبل) لكي نشعر أن حياتنا مستدامة مع قليل من رشة بهار الحكمة والمنطق ودراسة الجدوى من وجودنا على هذه الأرض، فنحن نحاول اللحاق بقطار العصر لنصل إلى محطة المستقبل بعقول مستنيرة وقيم من التمكين الثقافي والاجتماعي والسياسي، ونحن نحاول أن ننجز في ليلة ما عجز عن تحقيقه الأسبقون بألف ليلة وليلة.
قالت نفسي: وجدته، وجدته.. قلت هو المدعو:
حتمية علم المستقبل
ذلك العلم الضروري الحتمي، سواء في الاقتصاد أم السياسة أم سقوط الحضارات أم بعد نظر غير أسطوري. نحن في أمس الحاجة إلى علم يوازي علم الاجتماع وعلم النفس، لنقل إنه العلم المقرب لصورة اليقين الآمن الذي نتجاوز به أخطاء وعثرات البشرية التي لا تزال تشكل جراحاً غائرة في أشكال من صراعات الشرق والغرب وفرق العمران بين الشمال والجنوب. عفوك يا نفسي. يبدو أننا سنعود غير مرة إلى النهوض من حطام وركام وآثار منازعات وأطماع بعد معاناة من غلاء في مواد أو فقدان من معطيات الأفكار الإبداعية.
قالت نفسي: المستقبل يقف على ركائز إستراتيجية من الرصد والتحليل المسبوقين بالاستشراف ووعي حركة التاريخ وأساليب التصميم النهضوي. لست هنا بصدد ضرب أمثال، ما دام العالم نسي الإنجازات الصفرية وأخذ يستثمر العقل البشري استثماراً يحوله إلى آلة من آلات الزمان، بالطبع أنا لا أدعو إلى قراءة الفناجين أو الودع أو النجوم أو الكفوف. قلت: كثيراً ما قرأت أن العرب والمسلمين ودول الشرق في حضاراتهم عندهم إهمال لعلم المستقبل، لكنك تذكرين يا نفسي علم الفراسة وقصّ الأثر وعلم الفلك والحساب بما في ذلك حساب (الجُمّل) والمواسم والدرور، أعني: كل ما سبق كان قائماً على محاولة استشرافية، فنحن لا نستغرب من حديث زرقاء اليمامة ونظرتها المستقبلية، لأنها اعتمدت على علامات وظواهر نفسية واجتماعية وجغرافية. لم يخب ظنها كما أنني لا أتحدث عن التنجيم كعلم نفته العقول والشرائع، مع أن الأساطير اعتمدت على العرافة والكهانة والسحر أكثر مما ارتكزت عليه من حقائق لا تقبل الشك، حيث أرى أن التكهن الممنهج يقي مصارع السوء وركوب سفينة مخترقة أو كيل بمكاييل المطففين.
آليات وسيناريوهات
لكي تستمر الحياة إذن لا بد من وضوح الرؤية والأساليب، حينما نجري دراسات لما كان وما هو عليه الحال، وما سوف يكون، ثم إن علم المستقبل أصله ناتج عن منطق الاحتمال في مواجهة التحديات والإمساك بزمام الأمور في قضاء الحاجات، فالحاجة أم الاختراع. ومن آليات علم المستقبل كما نرى الاستشراف والتنبؤ والرؤية وهذا الذي جرينا على تسميته السيناريو الوصاف للسلسلة المتضمنة حيثيات المادة والفكرة والإمكانات والاحتمالات. وبالطبع نحن لا نتحدث عن عالم الغيب. نحن هنا مع علم الواقع المؤسسي الفعال في أي ابتكار أو حماية أو تصور.
إن علم المستقبل العربي لم يكن غائباً، لا في التوجيه الديني ولا في نظرة عالم الاجتماع ابن خلدون القائل في مقدمته: إن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة كانت متهيئة لقبول ما يراد لها وينطبع منها، ولا بأس أن أذكر طرفة لبدوي معلقاً على حدث جرى أمام عينيه عندما رأى آخر يركب قربة ماء ليعبر نهراً دون التفكير في مستقبل عمله:
يداك أوكتا وفوك نفخْ وإنك الجاني علام الصُّرَخْ
وهذا يجعلنا نقف على ضرورات أخرى لعلم المستقبل ألا وهي الفطنة والوعي والذكاء الاجتماعي ومحو الغفلة والحماقة.
وعي علم مستقبل
نحن أمام مصطلحات لا يمكن اعتبارها محدثة بقدر ما تحتاج إلى تفعيل لخلق علم المستقبل العربي، مستفيداً من مستقبليات الشعوب الناهضة المتجاوزة للتحديات المستقبلية، لكن يا نفسي إن ثقافات الشعوب تتلاقح والفرق بينها في أي ثقافة تكون أقدر على التخفيف من الأزمات القائمة والمفاجآت الصادمة، بمعنى: من هو الأسرع في استبصار مستقبل مغاير لما قبله؟
إن تحديد الأهداف يوجب وضع خرائط استقرائية وتغذية راجعة تبلور الخيارات والتوقعات بين الممكن والمتاح دون إهمال أن الحاجة أُم الابتكار والاختراع، وذلك لا يتم عادة بجهود فرديه محضة، إنما على البحث الجاد الممنهج القائم على أدوات فحص مقننة أو شبه مقننة في أوساط علمية ومراكز محكمة تراعي في الدراسات الأولويات وتوفر آليات النجاح لخطط المستقبل في حيزها المكاني والزماني المرسخ بنمط السلوك ومعياره المستطلع المستوعب لسنن الكون وربط الأسباب بالمسببات ووعي أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وأن ما لا يدرك بالحواس يُعلم بالتجربة والقياس الحسابي والناتج الخالي من الإسراف والهدر في الماء والكلأ والهواء في ركائز إستراتيجية من النفس الطويل على سواحل معرفة بلا حدود.
أجل يا نفسي نحن في التصور نصف الأوضاع المستقبلية التي يمكن تحديدها من خلال التفاعل مع اتجاهات آلة الزمن المبوصلة لعلم المستقبليات.
خلاصة القول وصفوته
أما بعد: فإذا عدنا إلى بصيرة العقل والقلب نجد حكمة الخلق الإلهي، حيث إن الرياح تجري بما تشتهي السنن الكونية، لا شيء عشوائياً في مسيرة الحياة، بل إحساس شفيف يجعل الإنسان يفكر، يبتكر، ثم يخترع، ثم يتخيل ماذا لو أنّ؟! وهذه السلسلة الهندسية في الإنجازات الصفرية احتاجت دائماً إلى تصميم المستقبل القائم على تقييم (ما قبل والآن وتوقع ما بعد) فضُربت الأمثال: هم زرعوا فأكلنا ونحن نزرع ليأكلوا، ازرع تحصد، مصانع المعروف تقي مصارع السوء، اعمل المعروف وارم في البحر، نحن الشباب لنا الغد، أو (يا خبر بفلوس بكره ببلاش) ثم (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). ها نحن في عصر الذرة والإنترنت وثورة المعلومات اللحظية لا عصر حجر ولا برونز ولا حديد، أترانا في العصر الذهبي؟. قبلنا قالوا عن عصرهم أنه أزهى العصور ثم بعد ما رأينا شواهد قبورهم قلنا: مساكين، كيف استوعب عقلهم عبادة الأصنام وأنهم لا هم لهم إلا شهوات وزينات وهيمنات.
قالت نفسي: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، قلت فهمت معنى: إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها. ها نحن اليوم نستثمر في العقل البشري كما نستثمر في الاقتصاد. وأمام أعيننا مستقبل الإنسانية. مثلما تحدث عميد الأدب العربي طه حسين عن (مستقبل الثقافة في مصر). إن الابتكار عمل وثقافة مؤسسية بل هو قدرة تنافس في الاستدامة لها قوانينها في التسويق والحماية وحقوق الملكية العلمية المستقبلية، وهكذا تستمر الحياة.

ذو صلة