مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

أين علماء العرب من علم المستقبليات؟

أسهمت التغيرات السياسية والاقتصادية والجغرافية والتكنولوجية العالمية الهائلة في زيادة فضول البشرية عامة نحو التنبؤ بما قد تصاحبه هذه التغيرات من تأثيرات إيجابية كانت أم سلبية ومدى هيمنتها على حياتهم اليومية وعلى دولهم سواء على المدى القريب أو المدى البعيد، أو حتى يبحثون عن شرفة أمل تساعدهم في تجاوز محنات استزفت طاقاتهم ومواردهم، ومن هنا ظهرت بوادر علم جديد يعنى باحتماليات حدوث الظواهر في المستقبل والاستفادة من هذه الاحتمالات والتخمينات في التهيؤ للقادم وتجاوز عثرات الحاضر والاستعداد لمواجهة المخاطر المحتملة كي يكون تأثيرها السلبي أقل ما يمكن. ونؤكد هنا على أن هذا العلم معني بالاحتماليات لا اليقين.
بناء على ما سبق، كرست الدول المتقدمة عدداً من مواردها البشرية والمادية لدراسة الظواهر في الماضي وتمحيص الحاضر لاستخدامه في توقع المستقبل والاستعداد له استعداداً يخدم المصلحة العامة والخاصة، وهذا تماماً يشبه حالة الطالب الذي يحضر لدرس علمي جديد لكي يفهمه عليه أن يفهم الأساسيات القديمة ويربطها بالمعرفة الحالية ليتنبأ بالقواعد التالية ويتهيأ لها. أي أن عالم المستقبليات يحتاج إلى معطيات واضحة قديمة وحالية لتكوين صورة واضحة يستطيع من خلالها وضع تكهنات قريبة وتصور ما قد يكون عليه الوضع مستقبلاً.
وما جرى على الدول المتقدمة والغربية جرى عند العرب ولكن النظر للمستقبل والتنبؤ به للعرب والمسلمين كان قديماً أمراً جدلياً حاداً، ولهذا لم ينتشر علم المستقبليات لدى المسلمين ولم يتطور وكان محدوداً مقتصراً على ترجمة ما يتنبأ به الغرب حيث إنه كان ينظر إليه أنه علم ينظر للغيبيات ويتطاول على قدرة الله عز وجل وحده في معرفة المستقبل والوصول إليه. إلا أن حدة هذا الجدل أخذت بالانحسار حين بدأ علماء العرب والمسلمين بالنظر لعلم المستقبليات أنه مجرد قراءة مبنية على دلائل قديمة وحاضرة للتنبؤ بما قد يحل بالمجتمعات لا يفترض فيها اليقين ولا الجزم. وبناء عليه فإن النظر لما هو آتٍ يحتمل وجود عدة فرضيات لا فرضية واحدة أكيدة تحاول الدول وبخاصة المتقدمة منها وضع روايات عديدة للتماشي مع القادم دون القفز أو التجاوز أو أي خسارة محتملة. وهذا بعيد كل البعد عن بعض الزلات الفردية لأشخاص يدعون الملكة والتنبؤ بدقة بما قد يحل ببعض الأمور على الصعيدين المحلي والعالمي وذلك بدافع الشهرة. فعلم المسقبليات أكبر من جلسة تأمل مع ورقة وقلم تكتب خزعبلات وعبثيات أصحابها على وسائل التواصل الاجتماعي تتنبأ بدقة المكان والزمان والأشخاص لأحداث تصبح حديث السفهاء يربطونها بأحداث قد تحصل صدفة. إنما هو علم قائم له أسس وفرضيات ومبادئ ثابتة وعلمية. وظهر عدة علماء عرب مثل العالم المغربي مهدي المنجرة والعالم اللبناني جورج.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَد) (سورة الحشر 18) المقصود بهذه الآية هو الغد الأخير عند ملاقاة وجه الكريم ولكن الغد الدنيوي هو الطريق لهذه النجاة. وفي هذه الآية حث صريح على النظر للمستقبل للاستفادة من الهفوات والزلات والابتعاد عنها ليغفر الله ما مضى ولا يقف عنده. وهذا يعكس على الحياة العامة. فالنظر للأمام والاستسلاح بسلاح الاستعداد والتأهب يحدث فرقاً عن مواجهة المجهول دون دلائل أو معطيات ويجعل البشرية تتطور التطور الذي حثنا عليه الدين بما يخدم مصلحة الدين والأمة والبعد عن متاهة الضياع التي قد يجرنا لها المستقبل دون أن نكون مستعدين للمواجهة، فيكون لدى الفرد والأمة المساحة والوقت الكافيين لاختيار الخيار الأنسب من عدة الفرضيات التي قد تحدث دون أن يتفاجأ بها وقد يتخذ بغتة قراراً يبعده عن دينه ودنياها. فالتأني يقوي الإيمان ويجعل الفرد يأخذ بعين الاعتبار جميع النواحي قبل أن يخطو خطوة للأمام قد تقع به في منحدر لا عودة منه. ولعل أكبر دليل على ذلك قصة العبد الصالح في سورة الكهف عندما رافقه سيدنا موسى، أي أنه لولا أنه لم يقم باستقراء المستقبل لما خرق السفينة وقتل الغلام وبنى الجدار، إذ إنه ساعد المساكين من خلال التنبؤ المبني على الواقع لمعرفة الخلل الذي قد يحدث في المستقبل والتجاوز عنه.
وفي خلاصة القول علم المستقبليات ما زال في طور الولادة والنمو عند العرب لعدم اهتمام الأنظمة العربية به وأخذه على محمل الجد كعلم يستفاد به ويتم توظيفه بما يخدم الأمتين العربية والإسلامية. وما زال علم المستقبليات لدى العرب مستنبطاً من قيادة الدول الغربية لهذا العلم، حيث يكتفي رواد علم المستقبليات بتطبيق ما فكر به الغرب. ومن جهة أخرى ينقص هذا المجال بحوث دراسية للماضي والحاضر لكي تكون أساساً ينطلق منه العلماء، فالتطور السياسي والاقتصادي يدعم ويدفع أفراد الأمة للسعي في الحفاظ على هذا التقدم برؤية وتنبؤ ما قد يؤثر عليه سلباً وإيجاباً لمعرفة كيفية التعامل مع هذه الظروف مستقبلاً.
وحيث إن الله حثنا على العمل والسعي في الأرض بما يتناسب وشريعتنا وأن لا نيأس ونحاول مهما اشتد الكرب في وقتنا الحالي. وما كان لهذا السعي أن يكون في أوجه دون دراسة محكمة لما كانت وتكون وستكون عليه الأمور حيث إن التفكير باحتمالات الفرج يقود النفس البشرية للأمل الذي يدفعها للعمل أضعافاً. يجب علينا أن نفكر ملياً بتطوير هذا العلم وأخذه على محمل الجد.

ذو صلة