مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

في الإبستمولوجيا الأساسية لعلم المستقبل

إن محاولة معرفة المستقبل والتأثير عليه أو التحكم به لهي قديمة جداً قدم هذا الكائن الذي يطرح سؤال: ما المستقبل؟ أو بصيغة أكثر تجريدية: ما الزمان؟ وفي مسرح التاريخ نرى الكثير من المحاولات التي قام بها الإنسان من أجل كشف الستار عن المستقبل وكسر عجلة الزمن الحتمية.
كان ولايزال الكثير من ضروب المعرفة والعادات والتقاليد والأعراف والأساطير التي تحاول التنبؤ بالمستقبل وممكناته، إلا أننا نعيش في عصر فيه الكثير من المفارقات، تبدأ المفارقة الأولى مع سيادة العلم والتقنية، مما جعل الحداثة قدراً محتوماً لا خياراً يُناقش حوله ويؤخذ القرار فيه بالأخذ والرد، وهذه القدرية للحداثة قادت إلى أمور عدة، منها أفق الثقافة الكوني، وما تحدد من حقل قيمي عابر للقارات، فالإنسان المعاصر مهما فعل ومهما تمسك بالماضي يبقى أسيراً للتقنية والرؤية العلمية للعالم. على كلٍّ هذه المقالة لا تهدف إلى أرخنة كل تجارب البشر نحو إدراك المستقبل وممكناته، بل ما نهدف إليه هنا هو وضع الأسس الإبستمولوجية العميقة لكل علم يطمح لمعرفة المستقبل والتنبؤ به، بمعنى أن هذه المبادئ نجد أنها ضرورة لكل علم بالمستقبل، ومنبع هذه الضرورة إبستمولوجي بدايةً وأخلاقي في نهاية المطاف، والسؤال الذي من الممكن أن يقودنا إلى جوهر هذه المقالة: ما هي الإبستمولوجيا التي نعتمدها من أجل التبحر في المستقبل وما هو قادم من الأمام؟ أليس كل محاولة لفهم المستقبل تعتمد في لبها على الماضي والحاضر؟ ومفاهيم مثل الماضي والحاضر، ألا تعتمد في عمقها على إدراكنا لماهية الإنسان والعالم؟ هنا نجد أننا دخلنا في أسئلة الميتافزيقا الكبرى: ما الإنسان؟ ما الحياة؟ وما هو الزمان؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة يعني المكوث داخل حقل إبستمولوجي من خلاله نعرف ممكنات الإنسان من جهة المعرفة والعلم، مما يعني أن هناك علاقة قوية بين الإبستمولوجيا وعلم المستقبل، إذ أننا لانعرف المستقبل إلا من خلال الإنسان وأجهزته المعرفية. وتحديد ماهية الإبستمولوجيا التي ننطلق منها يعني تحديد علاقتنا منذ البدء مع الزمان والحياة والتاريخ وما إلى ذلك. فما هي نظرية المعرفة التي نرى أنها ضرورة معرفية وأخلاقية لأي علم بالمستقبل؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال علينا أن نطرح إبستمولوجيا تقف في تعارض صارخ مع ما نود الوصول إليه من خلال هذه المقالة، ومن خلال الضد لا نعرف الضد، بل نفهمه أكثر.
لنقل بدايةً هناك إبستمولوجيا عقلانية وأخرى تجريبية، أو هناك قبلية وهناك إبستمولوجيا بعدية، وكل إبستمولوجيا عقلانية تقود إلى تصورات صارمة وحدية عن المستقبل، فهي تعتمد في استشرافها لهذا المستقبل على ما تتوافر عليه من قوالب جاهزة عن ماهية الحياة والقوانين التي تحكمها وغير ذلك، الإبستمولوجيا العقلانية طريقة في النظر إلى العالم من خلال مقولات سابقة على الحياة، وهي تنطلق من تصورات محددة عن ماهية الإنسان كالقول بأنه حيوان ناطق أو حيوان عاقل، أو القول بأن هذا الكائن مزدوج، فهو من ناحية يسكن الجسد ومن ناحية أخرى يتعالى من خلال الروح، لكن ما يهمني من الناحية المعرفية هو أن كل إبستمولوجيا عقلانية تضع مركزاً ثابتاً ومن خلاله تنطلق في تعيين قضاياها، وهذا المركز قد يكون الأنا المتعالية، وقد يكون العقل ومقولاته، إلا أن المشترك هنا هو الاعتماد على هذا المركز في الحكم على المستقبل، وهو ما نقده كارل بوبر في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه) ضد هيغل وماركس. يعد هيغل مثالاً جيداً على علاقة الإبستمولوجيا العقلانية بعلم المستقبل، ينطلق هيغل من نقطة أساسية في بناء كل نسقه الفلسفي، وهي أن العالم محكوم بالمنطق وقوانينه، وكل شيء في الحياة يخضع لمنطق الجدل، لذلك نجد هيغل يملك الجرأة على تحديد بداية الحضارات، وكذلك تعيين نهايتها واكتمالها، فمن بعد الهيغلية ظهرت الكثير من الأطروحات التي تكشف المستقبل وتحدد معالمه كالماركسية ويوتيوبيا المجتمع الشيوعي والذي هو حتمي، ونهاية التاريخ فوكوياما وغير ذلك. إن ما نضع الأصبع عليه هنا هو التالي: كل إبستمولوجيا عقلانية وقبلية تفترض إما مقولة واحدة أو عدة مقولات تحكم الماضي والحاضر والمستقبل. وذلك من خلال عدتها الجاهزة قبلياً، فالماء عند سكبه في قوالب ما يأخذ أشكالها، وهذا هو عنف العقلانية في قراءة المستقبل، لكن العنف مقولة أخلاقية، وقد شدد عليها بوبر في نقده لأفلاطون هيغل وماركس، وسوف نأتي على ذكرها، إلا أن ما يهمني هنا هو أن العلم الحديث أي العلم التجريبي لا يقر بهذه الحتميات، فمنذ فيزياء الكم ومبرهنة غودل وظهور الهندسات اللاإقليدية صار من المستحيل الحديث عن حتميات تحكم الحياة والعالم، الحتميات في الأنساق العقلانية والمثالية لا تنبع من أصل المادة الفيزيائية وحركة الذرات بل من عقلٍ متعالٍ على الحياة يفرض مقولاته عليها، فلا العقل ولا مقولاته ينسجمان مع نتائج العلم المعاصر، وهذا ما يدعونا إلى بناء إبستمولوجيا أكثر قرباً من الفيزياء الحديثة والمعاصرة وكذلك الرياضيات، هنا نظفر بالمبدأ الأول الذي أرى أنه من الضروري معرفياً لأي علم بالمستقبل أن ينطلق منه ومن خلاله، فهو يشبه المسلمات الرياضية إلا أنه مسلمة مُستنبطة من جوهر التاريخ والحياة والعلم المعاصر وأعني:
مبدأ اللايقين
هذا المبدأ لا ينسجم مع كل تلك التصورات العقلانية، لأن العقل تم تصوره بطريقة ثابتة ومطلقة، بحيث أنه يملك عدة قوانين ضرورية لا يحيد عنها، وهو ما يعني أننا لا نفهم المستقبل إلا من خلال هذه القوانين، والطريف هنا أن الحياة دائماً ما تأتي على عكس ما يعتقده العقل المتعالي والمطلق. مبدأ اللايقين مبدأ فيزيائي يقود إلى عدة أمور من أهمها: لا يمكن لأي أحد أن يُعطي قولاً جازماً وأخيراً عن المُستقبل لأن من طبيعة العالم الذي نعيش فيه أنه محكوم باللايقين، وهذا ما يقودنا إلى المبدأ الثاني في هذه المقالة، وهو:
اللاوعي
نعلم اليوم من خلال علم الأعصاب والأبحاث الفرويدية القديمة أن الإنسان لا يملك وعياً مباشراً بذاته، فهو مخترق من جهات عدة من التربية والمجتمع وحدود قدراته المعرفية والحسية وخبرات طفولته وغير ذلك، وهذا يعني أن الإنسان لا يملك سيطرة مطلقة على ذاته وعلى المستقبل. وهل يعني هذا أن يكف الإنسان عن استشراف المستقبل؟ ليس الأمر كذلك، بل يعني أننا نملك بعد كل ما ذكرناه حتى الآن وجهتي نظر في الإبستمولوجيا ممكنة: الأولى أسميها الإبستمولوجيا المُغلقة، والثانية الإبستمولوجيا المفتوحة، وما أدافع عنه هنا هو أن كل محاولة لمعرفة المستقبل وقراءته لا بد أن تنطلق من هاذين المبدأين الأساسين، وذلك كما ذكرنا لضرورة معرفية وعلمية قادنا إليها العلم الحديث، كما أن هناك ضرورة أخلاقية دافع عنها بشراسة بوبر في كتابه المذكور سابقاً، إلا أنني أقول زيادةً على ما ذكر: إن هاذين المبدأين يحفظان الإنسان داخل أفق الاحتمالات، ولا يُسلب منه هذا الحق الفيزيائي والأخلاقي، كما أننا نصل إلى نتيجة مهمة هي الأخرى وهي بمثابة صمام الأمان للإنسان من الغرق في الحتميات وقتل رحابة المستقبل، وأعني عدم اختزال الإنسان اليوم وإلى الأبد داخل قوالب مغلقة تقوده على سبيل المثال إلى ما سماه بوبر التاريخانية، والتي بدورها قادت إلى تبرير القتل، وقيام أكبر حربين في تاريخ البشرية حتى الآن، وذلك بدافع أن الإنسان صار يعرف الحقيقة المطلقة، ومن ثم هو قادر على رسم المستقبل وتشكيله على صورته، بل حتى عملية تسريعه نحو غايته الأخيرة.
وما أردناه في نهاية المطاف من هذه المقالة هو وضع مبادئ مُثبتة بالمفهوم العلمي وليس المنطقي تضع الإنسان على أرض أكثر قُرباً من الصحة عندما يقرر استشراف المستقبل ومعرفة كل ممكناته، هذه المبادئ من الناحية المعرفية لا تُغلق البحث أبداً، بل تجعل من وجود البحث المستمر مبرراً، لأن الذي يملك الحقيقة المطلقة يعد بحثه ضرباً من الترف، كما أن هذه المبادئ تحمي الإنسان من استبداد المقولات الجاهرة، وما يترتب عليها من حروب باسم المثالية وحتى المادية، لأنه لا فرق بينهما عندما يختزلون الحياة والإنسان في قوالب جاهزة ومطلقة. وبالنسبة لعلم المستقبل علينا أن نعي بأن الإنسان بعد كل ما ذكرناه لا يعني أنه كائن حر، ولا هو محكوم بالحتمية؛ بل هو فضاء متعدد من الاحتمالات مثله مثل الطبيعة ما تحت الذرية. إن الاحتمالات مهما تعددت يبقى بينها تشابه، فالجسد البشري واحد والكون الذي نسكنه واحد، من هنا يبقى الرهان القادم هو معرفة تشابهات الماضي وممكنات المستقبل، مع الأخذ بالاعتبار الإبستمولوجيا الأساسية لعلم المستقبل.

ذو صلة