مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

علم المستقبليات.. من ترف الاستشراف إلى ضرورة التمكين

إن استقراء المستقبل واستشرافه عملية تأخذ في أولها شكل الترف المعرفي، والتجاوز الواقعي، لكنها اليوم تنصبّ في أحد أهم العلوم الإستراتيجية التي تسعى الدول والمؤسسات الكبرى حول العالم لدعمها والنهوض بها. فالعمل على محاولة قراءة المستقبل وأحوال المجتمعات، وتشكل الفرضيات وفهم إمكانات وقوعها وتوجيهها بشكل منتظم ومؤسس يظهر اليوم ضرورة ملحة لبناء مستقبل أفضل، بل هي الحد الفاصل بين التمسك بالبقاء والتطور والتنمية، أو الوقوع في وحل الفشل والتأخر ومن ثم الفناء.
المستقبليات أو استشراف المستقبل
يمكن استنطاق المعجم العربي لفهم المقصود بعلم المستقبل أو المستقبليات، عبر فهم مصطلح (الاستشراف)، وهو ما اعتبره كثير من الدارسين الترجمة الرائجة لعلم المستقبل. والاستشراف في أصله كما جاء في لسان العرب: استشرف، يستشرف استشرافاً، فهو مستشرِف، واستشرف الشيء أي رفع بصره لينظر إليه، واستشراف المستقبل التطلع للمستقبل والنظر إليه والحدس به وتوقعه. وهو ما يعني في عامة مضمونه النظر إلى شيء قادم، والتطلع إلى بعيد مقبل، ومحاولة معرفته، وإدراك تفاصيله، وهذا ما يتناغم بشكل ملحوظ مع المفهوم الإطاري المعاصر لعلم المستقبل أو المستقبليات.
فاستشراف المستقبل كما يذكر أحمد زكي بدوي (هو العلم الخاص بعملية التنبؤ بالأوضاع الاجتماعية والسياسية المتوقع حدوثها في المستقبل القريب) وهو ما يقوم على قراءة مقدمات الواقع التي تحمل تشكلات الوقائع الفردية المتوالية، ومنها يمكن استخلاص (المبادئ) العامة التي تسيرها، وهو ما يشي بالصورة المستقبلية للمجتمع. ويرى فاروق عبده أن الدراسات المستقبلية هي (مجموعة من الدراسات والبحوث التي تهدف إلى الكشف عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبلية، والعمل على إيجاد حلول عملية لها)، مما يستلزم فهم مسار الأحداث المستمرة، وقراءة التغييرات والمنعطفات التي تحدث، محاول لفهم المستقبل وما يحمله.
هذا الفهم بشكله الإيجابي هو أداة الباحثين في المستقبليات، وبه يواجه الإنسان مشكلاته العميقة، ويخطط مستعداً لمواجهتها بما يوفره له واقعه، ومن ثم يعي النقص الذي سيؤدي إلى مزيد من هذه المشكلات مستقبلاً ويفاقمها.
تركيب المستقبل.. الزمن المفقود
من المربك لعقل الإنسان عادة وقوعه في مواجهة مباشرة لفهم المستقبل، إنه ذلك الغامض الذي يستجيب للتوقع والتخطيط مرات، ويباغتك بالمقاومة والتغيير مرات كثيرة. لذلك يمكن اعتبار محاولة استشراف المستقبل منهجاً أقرب ما يكون إلى تركيب قطعة فسيفساء، تتكون من أشكال مختلفة التصميم والألوان، ولا انسجام في تفرقها، لكن الفنان يستطيع دراسة أبعاد كل قطعة، والوصول إلى نقطة تماسها وامتزاجها بشكل مريح للبصر، بل واكتشاف جمالية ضمها جميعاً في لوحة واحدة. هذه القطعة الملونة هي مجموعة تنبؤات يعطيها الواقع من مشاهد وحقائق وظواهر، تسوس عقل المتأمل الدارس وتعينه على رسم المأمول والمستقبل دون وهبه وثيقة حقائق منتهية ولا مفر إلا إذا استجاب للتخطيط واشتراطات نجاحه. فالزمن المفقود -المستقبل- يبقى دوماً الحلقة المفقودة في عالم الإنسان، والقلق المؤرق لضمانه، وهو ما يجعل السؤال الإعلامي: (أين ترى نفسك في المستقبل؟) من أكثر الأسئلة تعقيداً، ويسم الإجابة عنه برمية نرد لا تخلو من نية المقامرة.
خطوات المستقبليات
إذا كانت المستقبليات بدأت بتخيل بنيات وأنساق اجتماعية قادرة على حل مشكلات الواقع المعاش مع غياب المؤشرات التي تبوح بإمكان تحققها، كما هو مع جمهورية أفلاطون المثالية، وحتى نموذج المادية التاريخية لدى كارل ماركس، فإن هذا الوجود المثالي لهذه النماذج (الفاشلة) ظل حبيس التنظير دون القدرة على التعايش مع الواقع البشري، وتجاوزته مرحلة التخطيط التي بدأت بالأخذ بالدراسة وفهم خصوصيات المجتمعات وما يناسبها لوضع الخطط اللازمة تنموياً وإستراتيجياً للوصول إلى حلول المشكلات مستقبلاً. وهو ما دفع بكثير من الدول الحديثة والمؤسسات إلى إنشاء مراكز بحثية ومنشورات تهتم بدراسة المستقبل واستشرافه، على سبيل المثال: مجلة الغد 1938 ببريطانيا، وإنشاء المركز الدولي للاستشراف عام 1957.
وغدا الوصول إلى العالمية في المستقبليات تحولاً لازماً، إذ لا يمكن للمجتمعات إبقاء رأسها في حفرة النعام، وتجاهل ما يحدث في العالم من ظواهر وتغيرات تؤثر في واقع الإنسان، وهو ما جعل المستقبليات تخرج من المحلية إلى الإقليمية والعالمية، ليكون التنبؤ ليس مقصوراً على شكل المجتمع الواحد وثقافته وبيئته واقتصاده، بل هو تنبؤ وقراءة وتصور لبنية العالم كله، وهذا أنتج موضوعات مركزية في علم المستقبليات، انتقلت بها إلى دراسة مشكلات حقوق الإنسان، ومشكلات البيئة، والزيادة السكانية، واستنزاف الموارد الطبيعية، وتبخر الهويات المجتمعية والفردية، والعنف العالمي، والهيمنة المعلوماتية وغير ذلك من الظواهر والموضوعات التي تؤثر في مستقبل الإنسان وتهم كل المجتمعات.
علم المستقبليات والإنسان
كل هذا وضع الإنسان في تعامله مع مستقبله أمام ثلاثة مواقف كما تقول منال البارودي في كتابها (علم استشراف المستقبل)، الموقف الأول هو موقف الخضوع والاستسلام الذي سيفقد الإنسان الكثير من آماله، ويرسم له مستقبلاً مهدداً دوماً بالتغيرات المفاجئة، والعجز التام الذي سيشل مسيرة المجتمع تنموياً واقتصادياً وثقافياً، ويحمل التاريخ والواقع الكثير من الأمثلة العالمية التي أفرزت مجتمعات هوت ثقافياً واقتصادياً وأخلاقياً بسبب تبنيها لهذا الموقف. وأما الموقف الثاني فهو القائم على انفعالية غير مدروسة، تتخذ من ردة الفعل المباشرة غير المحسومة ركيزة وبوصلة للتحرك في مواجهة طوارئ المستقبل، وهو بطبيعة الحال موقف أثبت فشله خصوصاً في المؤسسات الكبرى، إذ لا يقود أي مؤسسة إلى التطور والتقدم والتنمية، بل يكون أشبه بمسكنات سريعة ومريحة لورم يستشري شره بصمت في جسم المؤسسة حتى تنهار بغتة.
وأما الموقف الثالث وهو ما تركز عليه المستقبليات، هو (إدارة المستقبل)، يعني وجود الاستشراف المستقبلي الذي يهتم ويُعنى بتهيئة المؤسسة للاستعداد التام لمواجهة التغيير، من خلال قراءة المعطيات الواقعة والظواهر القائمة دون تجاهل تاريخها والتنبؤ بأثرها عبر وضع فرضيات تتناسب مع موثوقية المعطيات ودراستها، وتغييب المثالية الزائفة في تزيين الواقع المؤقت، والسعي للاستعداد الكامل في سبيل تحقيق المأمول والتطوير والتنمية. وهذا هو الموقف الذي يفترض تبنيه لدى المؤسسات باختلاف أنواعها ووظائفها في المجتمعات، وهو يستدعي النفس الطويل، والرؤية المنهجية المحددة، ومواجهة العشوائية الانفعالية.
وبتمثّل هذا الموقف، يتعامل الإنسان مع مستقبله ضمن ثلاثة أضلاع لمثلث زمني لا انقطاع بينها: الماضي، والحاضر، والمستقبل. إذ لا يغيب التاريخ وسجل الظواهر الماضية، التي تعد رافداً مهماً لفهم مسيرة العوامل والفواعل الكامنة وراء تشكل الأحداث وبنيتها، وهي ما يمكن أن تتسم بالتكرارية والتوالي. وفي فهم امتدادها في الزمن الحاضر كشف وتبصر بأسباب هذا الامتداد، ومحاولة فهمه وتأثره وأسباب تغيره أو ثباته. ومن ثم، تكون بصارة وبصيرة الدراسة المستقبلية بعيدة عن العشوائية والانقطاع عن الواقعية، بل هي متصلة في أبعادها المفهومية بثلاثة أضلاع لمثلث آخر: الممكن، والمحتمل، والمفضل. ووجود هذا التناغم والتماهي بين المثلثين في حركة الدراسة المستقبلية يصنع وجوداً بانورامياً بأبعاد أفقية وعامودية متكاملة لشكل المستقبل والقدرة على استشرافه. وهو ما يساعد المجتمع على التنبه الجاد لمشكلاته، وتوفير إطار زمني مرحلي لخططه الإستراتيجية قصيرة وبعيدة المدى لحل هذه المشكلات وعلاجها الجذري، ومن ثم الانتقال من حل المشكلات إلى تطوير الممكنات لتحقق المستقبل الأفضل بمشيئة الله وقدرته. وهو ما يأتي تحت طائلة الأخذ بالأسباب والعمل الذي يؤكد عليه الإسلام الحنيف.
علم المستقبل.. كشف واكتشاف للإنسان
تحمل الدراسات المستقبلية في جعبتها الكثير من النفع الذي يعود على الإنسان بتجويد الحياة، والنهوض بمجتمعه وتطويره، حتى الوصول إلى السلام والتنمية. فمن خلالها يكشف الإنسان عن أسباب معاناته، ومفاصل مآسيه ومواجهتها بحلول جذرية، ومن ثم يكتشف قدراته وطاقاته الكامنة التي تغيب وسط أمواج الحياة المتراكبة. وهو ما يدعو إلى فهم طبيعة الاختبار والاختيار التي لا تفارق حياة الإنسان. كذلك، تُظهر الدراسات المستقبلية العقولَ المبدعة في المجتمع الإنساني، فهي تستقطبها بطبيعتها اللانمطية، وتقف مواجهة للتقليدية والاندفاعية العشوائية ومقاومة التغيير، وتعتمد المنهج النقدي الفاعل، وتمجّ التنظير البائس البارد، مما يجعلها البيئة المعرفية المناسبة للمستقبليّين الذين لا يملّون الأحلام، ولا يعرفون المستحيل، بل يجعلونه ممكناً. وهو ما يعلن الدور المهم للمستقبليات أو علم المستقبل، والكفاءة العالية التي تنتهجها للنهوض بالدول والمؤسسات والعلوم والمجتمعات، والحاجة الماسة للاستفادة منها في كل الحقول المعرفية والثقافية، ومواجهة التحديات والعثرات التي يمكن أن تعطل مسيرتها. وليس غريباً أن يؤكَّد بأنّ النهضة العظيمة التي تعيشها المملكة العربية السعودية اليوم عالمياً هي توظيف ماهر، واستفادة ذكية من علم المستقبليات وتطبيقه في أفضل صوره في رسم الرؤية المباركة، رؤية 2030، وهو ما ضمّنه أيضاً قول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- عندما قال: (نحاول ألا نعمل إلا مع الحالمين الذين يريدون خلق شيء جديد في هذا العالم)، مما جعل المملكة العربية السعودية تسبق دول العالم في تحقيق منهجية علمية عالية المستوى في مسيرة التنمية والتطوير وتحقيق النجاح المنقطع النظير بتغيير نهضوي مدروس بعناية ودقة واستشراف للمستقبل، لتقدم نموذجاً ممكّناً في كل المجالات التنموية يدرّس عبر أجيال عالمية في هذه المسيرة الاستشرافية.

ذو صلة