مجلة شهرية - العدد (574)  | يوليو 2024 م- محرم 1446 هـ

بعض رهانات التعليم مستقبلاً في العالم العربي

كان يدور بخلد صاحب هذه الورقة أن يجعل لفظ (العالم العربي) جارياً على المتعدد، لا لفظ (رهانات) فقط، فعلى نحو ما هو بيّن ثمة تباين يميز بين المؤسسات التعليمية في هذا البلد أو في ذاك رؤية وتسييراً، وثمة بون يفصل بين البرامج والمناهج التعليمية تخطيطاً وتدبيراً، فضلاً عن التباين على صعيد الأجهزة التقنية المسخرة بيداغوجياً لحسن التعلم ويسر التدرب. لكن صاحب هذه الورقة أحجم عن ذلك لأنه أمر موكول في تقديره، إلى المؤسسات التي يجتمع تحت قبتها وزراء التعليم العرب والخبراء المكلفون بمثل هذه المسائل.
لقد اخترنا أن نثير مسألة الرهانات التي يتعين على التعليم في العالم العربي أن يعانقها، وإن كنا ندرك أنها متصلة بقضايا مطروحة في كل دول العالم. إلا أن بيئتنا الثقافية والتعليمية تحتم علينا أن ننظر إلى أنفسنا في مرآة التحديات الني يطرحها التطور التقني والقفزة الوسائطية - الإعلامية.
لا يمكن أن نطرح مسألة كل المهارات المستجدة على ممارسة التعليم، لكن نكتفي بما يتصل أتيقياً بالإنسان، وبخاصة على صعيد بنية الذكاء التي تهيكلت لديه، في دماغه، منذ آلاف السنين:
القراءة والكتابة على الشاشة، أي دلالة لهذا الإجراء؟
لا مراء في أننا منذ الآن، وبتواتر متسارع، يقوم عدد هائل من البشر بتجربة القراءة والكتابة على شاشات الهواتف الذكية، والحواسيب، والألواح الذكية. فهل يتعلق الأمر بثورة في العمق، أم هل بـ(حمق رقمي)، كما يتساءل ميشل ديميرجي (Michel Desmirget) في كتابه الموسوم (اجعلوهم يقرؤون حتى ننتهي من الأحمق الرقمي) (لم يترجم بعد إلى العربية، صادر عن دار سوي الفرنسية). طبعاً لا يتعلق الأمر، في تقديره، بالتخلي عن هذه التقنية الجديدة في نسخها المتعاقبة، والتي تسمى (أجيالاً رقمية)، لكن يتعلق الأمر بإعادة النظر في جدواها على صعيد القراءة والكتابة. فمن منطلق تشخيصه، خسر الكتاب معركة أوقات الفراغ، لقد سحق بالقوة المتفوقة للشاشات المسلية، لأنه بتعبيره هو يموت في الردب (المسدود) لاختبارات الإغراء والجاذبية.
وفي استئناف لما تقدم، تقول الأمريكية المختصة في علوم أعصاب القراءة، ماريانا وولف (Maryana Wolf): بأننا نكون، مع العادات الرقمية التي تفرزها الثقافة الرقمية الجديدة، بصدد تعديل نوعية الانتباه لدينا تخصيصاً لدى الشباب الذين يغيرون في المعدل 27 مرة موضوع الانتباه في الساعة. فممارسة القراءة لديهم تنزع إلى التفقر وعندما ندرك أهمية (الدماغ-القارئ)، في تطوير الشعور بالغير empathy، فإننا نكون محقين في القلق بشأن التطور االعقلي للنزعة الفردانية المعاصرة ndividualism. لقد أضحى، في تقديرها، (الدماغ-القارئ) الذي هو أحد المكتسبات الكبرى للإنسان العاقل Homo sapiens، مهدداً.
أرجو أن ينتبه القارئ الكريم إلى أن الأمر لا يتعلق البتة بموقف محافظ من الثورة الرقمية، فهذا القلق يسنده واحد من الاكتشافات التي انتهت إليها العلوم العصبية: لا توجد بنية تحتية دماغية منذورة للقراءة، على خلاف الأمر بالنسبة إلى الرؤية أو اللغة، وهذا ما يفضي إلى القول بأن الدماغ ليس معداً في الأصل للقراءة، فإن كنا نقرأ فذلك أمر ليس طبيعياً أو فطرياً، وإنما هو اختراع ثقافي لم يفت عليه أكثر من 25 ألف سنة. وهو إذ يستمر فبفضل التربية، لا شيء يمنع إذن أن نتبصر أنه يمكن لهذا المكسب، تحت تأثير محيط ثقافي. ولنعد إلى الوراء، حتى نفهم ذلك: منذ آلاف السنين، عند اختراع الكتابة، كان على الدماغ البشري أن يتعدل بواسطة أدوات من كل الاتجاهات، فكان عليه أن يتعلم أن يفك رموز (طلاسم) معلومات لسانية متأتية من اللغة، وذلك عبر خلايا عصبية للتعرف على شكل الأشياء، وباختصار ربط الخلايا العصبية للإبصار وللغة وللعرفان، من أجل استخدامها عن سابق تصميم من أجل نشاط لم يكن وارداً في كراس شروطها، هو ما يسميه الفرنسي ستانيسلاس ديهير (Stanislas Deher)، عالم الجهاز العصبي (الرسكلة العصبية).
خاتمة مختصرة
هذه الخاتمة المختصرة على صلة بالديباجة أعلاه. ما نحتاج إليه اليوم هو التفكير المعمق، انطلاقاً من نتائج هذه البحوث، في ما قد توفره الوسائط التقنية المستحدثة من حلول لمشكلات القراءة حتى لا تطمس بنية الدماغ البشري أهم معالمها، وحتى نحل بعض الإشكالات التي تعرض له نظير (عسر القراءة والفهم) dyslexie. ولا يعني ذلك، طي صفحة الرقمنة، فكما أشرنا أعلاه فإن ما قد يخشى منه في العالم العربي يظل، لاعتبارات محلية، حبيس الرؤية التقليدية لمهارات التعلم وشق آخر (يحلق عالياً في سماء رقمنة التعليم ومحيطه الثقافي والاقتصادي).

ذو صلة