مجلة شهرية - العدد (574)  | يوليو 2024 م- محرم 1446 هـ

إستراتيجيات تطوير التعليم.. بين معالجة مشكلات الحاضر ومواجهة تحديات المستقبل

يواجه العالم مؤخراً تغيرات جذرية تأتي في مقدمتها ثورة (التحول الرقمي)، حيث أصبح من المحتم إعداد جيل قادر على استيعاب ومواكبة تلك التغيرات بل وقيادتها، ولتحقيق ذلك تظهر أهمية دمج المهارات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية ومواكبة ثورة الاتصالات والمعلومات التي فرضت نفسها في شتى جوانب الحياة، وتظهر أهمية إكساب الطالب المهارات الخاصة بالبحث عن المعلومات واستخلاص المعارف والتأكد من مدى صحتها وارتباطها بهدف البحث عن المعلومة. ومن ثم فإن تطوير التعليم وتعرف الطالب على التكنولوجيات الحديثة لخدمة الأهداف المعرفية المستهدفة صار من الأهمية بمكان لكي يصبح الطالب مؤهلاً للالتحاق بالجامعة الذكية أو جامعة الجيل الرابع.
وهنا ينبغي أن نتطرق قليلاً لتاريخ تطور الجامعات، منذ القرن التاسع عشر حتى الآن بداية من جامعات الجيل الأول التي كانت سائدة في أوروبا حتى قبيل الحربين العالمية الأولى (1914 - 1919م) والثانية (1939م - 1945م) التي اقتصر دورها في تدريس العلوم الأساسية وكذا العلوم الإنسانية.
ولكن مع اشتداد سعير الحرب العالمية الثانية رزحت الجامعات تحت تحديات خطيرة جداً تتعلق بوجود أوطان بكاملها وذلك حينما شن الجيش النازي حرباً شاملة على أوروبا، حينئذ التفت الساسة في أوروبا والولايات المتحدة إلى تعظيم دور الجامعات لينتقل من التعليم والتلقين إلى البحث العلمي بهدف إيجاد حلول مبتكرة وعملية لمواجهة التحديات التي أتت مع الحرب العالمية الثانية وهو ما عرف بجامعات الجيل الثاني.
ومع بزوغ ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتقدم الكبير في القدرات الحاسوبية مع نهاية ستينات القرن الماضي صار من المحتم أن تلعب الجامعة دوراً موازياً للبحث العلمي وهو خدمة المجتمع، مستفيدة هنا من تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وهذا ما عرف بجامعات الجيل الثالث.
أما في عصرنا الحالي (وفي العصور التالية) ومع بزوغ تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الذي غير - وسيظل يغير- أوجهاً كثيرة في حياتنا العملية، وسيؤدي إلى اختفاء وظائف من سوق العمل، أصبح محتماً على الجامعات ليس فقط تغيير المناهج بل تطوير وابتكار طرق التدريس والتعلم (Teaching & Learning) التي تعزز القدرات الابتكارية لدى الطالب لكي يصبح معداً لمواجهة المواقف العملية التي لم يتطرق لها أثناء دراسته.
و في هذا الإطار فإن مهارات التفكير النقدي (critical thinking) تعد واحدة من أهم المهارات التي لابد من زرعها وبنائها في شخصية الطالب، وهذا ما يعرف بجامعات (الجيل الرابع) أو الجامعات الذكية، والتي يمكن القول إن هدفها الرئيس ليس فقط إعداد طالب مواكب لسوق العمل ولكنه قادر بامتياز على قيادته.
مهارات علمية مواكبة للعصر
ومن العناصر الأساسية التي يتوجب علينا إضافتها للمناهج المدرسية هو العنصر الابتكاري والإبداعي للطلاب وكيفية تنميته، حيث إن عملية تحليل المناهج واستخراج الأفكار المبتكرة القابلة للتنفيذ منها هو أصل مهم من أصول فكرة الاختراع والابتكار (innovation and creativity)، ويتحقق هذا بربط المنهج المدرسي بتطبيقات موجودة في حياتنا العملية مما يعزز من قدرات التحفيز الفكري لدى الطلاب، ولتكون أكثر تحديداً فإن تحويل الطالب للمعارف الأساسية التي اكتسبها أثناء الدراسة عبر المشاريع والنماذج الأولية (prototype) هو أوضح الأمثلة على ربط المناهج المدرسية بالتطبيقات العملية، وخلال هذه الرحلة التي يقضيها الطالب من (المعلومة الأساسية) إلى (التطبيق العملي) فإنه يكتسب مهارات أوسع وأشمل مثل تخطيط وإدارة وتنفيذ وتقييم المشروعات في زمن قياسي وتكلفة محددة.
ومما ينبغى الانتباه إليه أن ندرك أن الإبداع هو أرقى أشكال (إنتاج المعرفة) والسبيل المؤدي إلى هذا هو الفهم العميق للمادة العلمية مما ينمي قدرة الطالب على التعلم الذاتي (self learning) الذي هو طريقة جمع المعرفة ومعالجتها والاحتفاظ بها دون مساعدة شخص آخر، وهي هنا تعد خطوة مكملة للمدرسة، وصلة الإبداع والابتكار بالتعليم صلة وثيقة حيث إنها تنمي القدرة على الربط بين مكونات المعرفة والمجالات المختلفة. وعلى عكس المتعارف عليه فالإبداع ليس فقط مرهون بالمواهب ولكن من الممكن تدريسه ليؤدي إلى تمكن الطالب من الإبداع والابتكار في حدود مستويات ومجالات معرفته، ومن ثم العمل على تنمية تلك المهارة حتى ننشئ جيلاً واسع الأفق جامعاً بين مهارات التفكير والابتكار والتنفيذ.
وهنا ينبغي أن نتوقف لحظة لنمعن الفكر قليلاً في السؤال التالي، وهو: أي السبيلين أجدى لتعلم الطالب أهو المنهجية أم التمنهج؟ وهنا نود أن نضرب مثالاً فعند دراسة الطالب لأحد قوانين الفيزياء الأساسية الذي هو قانون كولومب للكهربية والذي ينص على أن الشحنتين المتماثلتين تتنافران بينما الشحنتين المختلفتين تتجاذبان، يأتي (التمنهج) هنا على صورة دراسة القانون نصاً كما هو بما لا يزيد عن المستوى الأول المعرفي وهو الحفظ. أما المنهجية -التي نراها أجدى- فهي أن يقف الطالب في المعمل موقف كولومب وأن يصل من خلال إجراء التجربة إلى الاستنتاج ذاته الذي توصل إليه كولومب وهنا نلاحظ أن المنهجية توصل المستويات المعرفية إلى أعلى صورها من المشاهدة والملاحظة والاستنتاج والتحليل والتقييم والتقويم. ومن هنا نخلص أن المنهجية تساعد على تنمية الابتكار، وتعد عموداً رئيساً من أعمدة (البحث العلمي) المميز، ولذلك نرى أنه يتحتم إدراجها كجزء رئيس في مناهجنا بحيث يستطيع الطالب من خلاله أن يصل إلى المعلومة.
وهنا لا يخفى علينا أن هذا الموضوع غاية في الأهمية ليس فقط للطالب المتوسط فكرياً بل للطلاب العباقرة لأنه يفتح لهم طريقاً يدلفون منه إلى شق طريق جديد للمعرفة. وأيضاً من الطرق ذات التأثير القوي على قابلية الطالب للتعلم هو التعليم التفاعلي (interactive learning)، الذي أثبتت نتائج اختباراته التي أجريت في جامعة هارفارد نجاحاً يزيد أكثر من 10% عن التعليم التقليدي.
ولتوضيح أثر تغيير المناهج وطريقة صياغتها على العملية التعليمية، توضح دراسة أجريت في 2017 تسجيل فارق من 4 إلى 5% في مستوى الطلاب بتعرضهم لمناهج أكثر تفاعلية، ومن المتوقع زيادة تلك النسبة مع تطوير التفاعلية. وهذا يقودنا إلى أهمية هذا في إعداد الطالب بشكل سليم للدراسة في جامعات الجيل الرابع كما أوضحنا من قبل.
من جانب آخر فإن تعلم الطالب لغته الأم وهي العربية أمر شديد الأهمية لإعداد الطالب فكرياً بحيث يصبح مبتكراً ومبدعاً، لأن الثراء الفكري يرتبط ببساطة بثراء المكون اللغوي في عقل الطالب، وعند مقارنة اللغة العربية باللغات الأخرى فنجد أن عدد مفردات اللغة العربية دون تكرار يبلغ ما يزيد على 12 مليون كلمة، في مقابل 150ألفاً للغة الفرنسية، و130 ألفاً للغة الروسية، ونجد أن الإنجليزية الأكثر انتشاراً عالمياً بها 600 ألف كلمة، وهذا يثبت أن اللغة العربية ثرية المعاني. فالألفاظ قد تتشابه في المعنى ولكن الفروق الدقيقة بينها تزيد الثراء الفكري لدى الطالب.
وهذا ينقلنا إلى أهمية تركيزنا في التعليم الأساسي أي -الست سنوات الأولى- أن يتعلم الطالب اللغة العربية ويتقنها قبل البدء في تعلم لغة أخرى، لأنه من السهل أن يتعلم الطالب لغة أجنبية ولكن لا يمكنه الابتكار بها مهما كانت درجة إتقانه لهذه اللغة لأن الابتكار لا يأتي إلا عبر اللغة الأم.
وهنا نأتي لنقطة مهمة إضافة لما سبق طرحه من أفكار، وهي أن تطوير التعليم المدرسي لا يمكن له أن يتحقق بكفاءة إلا من خلال تأهيل الإدارة المدرسية بشكل يتماشى مع طبيعة العصر، وأن يتم تنمية القدرات الإدارية للمدير من خلال برامج تدريب إدارية مميزة تؤهل المعلم لكي يصبح يوماً ما مديراً ناجحاً قادراً على إدارة المدرسة بنهج مؤسسي، يعتمد على المشاركة الفعالة في صنع واتخاذ القرار، ووضع إستراتيجية المؤسسة العلمية وتقييم الأداء طبقاً لمعايير الإدارة المدرسية المعتمدة عالمياً، وهذا للأسف ليس متحققاً إلا بنذر يسير في مدارسنا بوطننا العربي وهذا موضوع يحتاج إلى مقالات عدة.
ولا يمكن تهميش أهمية التحسين المستمر وتطوير المناهج بما يتناسب مع ثقافتنا العربية، حيث إن التعليم ومناهجه المختلفة لابد أن يعكسا قيم المجتمع ويشكلا بنيانه الثقافي، لذا يجب أن يراعى أثناء تطوير المناهج الأخذ في الاعتبار الاهتمام الوفير بالثقافة العربية وتأصيلها وغرسها في نفوس الطلاب، مما يعزز قيم الانتماء لعروبتنا التليدة، وهذا لابد أن يتحقق ليس فقط من خلال تدريس وتعلم اللغة العربية، ولكن لابد من الاهتمام بشكل أوفر بتعليم التاريخ والجغرافيا وسائر العلوم الإنسانية الأخرى، ليس فقط على مستوى التعليم المدرسي لكن أيضاً بشكل يمتد إلى التعليم الجامعي. يجب أيضاً تجنب خطأ التشعيب المبكر لكي يصبح الطالب على دراية واسعة بمحاور أكثر من الناحية المعرفية في مجال دراسته، ونتاج هذا المنهج هو طالب مرتبط بثقافته وواع بها في المقام الأول، ومحقق لأكبر استفادة من المناهج ومكتسب لمهارات التفكير المنطقي والمتسلسل.
وفي الختام فإننا نتمثل كلمات أمير الشعراء أحمد بك شوقي عن التعليم حين قال:
عز الشعوب بعلم تستقل به
يا ذل شعب عليه العلم قد هانا
فعلموا الناس إن رمتم فلاحهم
إن الفلاح قرين العلم مذ كانا

ذو صلة