مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

جدل التراث بين العامية والفصحى

مسألة الجدل، جدل التراث بين العامية والفصحى مسألةٌ تعود إلى العصور العباسية الأولى، وسنرى منذ البدء أنه لم يكن جدلَ نفار واختلاف، بل كان جدلَ وئام وائتلاف. ومعروف أن اللهَجات القبلية التي عُرفت في تاريخنا اللغوي غير العاميات التي انتشرت بالتدريج واتسعت حتى أيامنا هذه، فاللهَجات ظلَّت خاضعةً لقوانين الفصاحة والإعراب، لا يتوانى علماء اللغة وواضعو المعجمات عن الاستشهاد بها، وإن كانت تقتصر على المفردات والألفاظ، في حين نجد العاميات تخلَّت عن قانون الإعراب الذي هو السِّمة البارزة من سمات لغتنا العريقة، كما جانبت الفصاحةَ في العبارة في مجمل أدائها اللغوي، يضاف إلى ذلك أن هذه العاميات لم تقتصر على المفردات المستقلة بل تعدتها إلى الصيغ والعبارات.
وهي وإن كانت في بداية ظهورها تُناوِش الفصحى وتنهل من مَعِينها؛ فقد عَلِقَت بها على مرِّ الزمان ألفاظٌ وتعابيرُ دَهَمَتها في إثر اتصالها بالشعوب المجاورة كالفُرس والتُّرك والهنود في المشرق العربي، والإسبان والبرتغاليين في الأندلس، والبربر في بلاد المغرب العربي، وذلك بفعل التبادل التجاري والاحتكاك الحضاري المباشر، ثم في إثر اتصالها بالشعوب الحديثة الناطقة بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها كما نراها الآن.
رواية اللحن
والحديث عن هذا الجدل قد يزلقنا إلى الحديث عن مسألة اللحن، ومتى ظهر وكيف استمر، وإلى الحديث عمَّا أصاب الفصحى على لسان العوام من تحريف وتبديل، وعن العلماء الذين خفُّوا لتدارك الأمر فألَّفوا في تقويم اللسان ولحن العوام، ثم قد نصل إلى التذكير بالمعركة التي احتدمت في القرن الماضي بين الداعين إلى العامية والمتشبثين بالفصيح، وهذا كله وغيره من الأمور قد يكون معروفاً لدى النخب العلمية، قائماً في أذهانهم، والعودة إليه تكرارٌ ممل غير ذي جدوى، لا سيَّما وقد انتصرت العربية بشهامة أبنائها ووعيهم الحضاري ووفائهم للتراث الذي هو الهُوية وهو الكِيان، فلمَ لا نحوِّل النظر إلى الجدل بين الناطقين بالفصحى والناطقين بالعامية، لعلنا نكتشف كيف استقبل أئمة الأدب والبيان كلام هؤلاء العوام الذين تفرغوا لشتى الاحتياجات اليومية الملحَّة، حتى لو خلا بلد منهم لتعطَّلت مصالح الناس وتوقفت حركة الحياة، ووُصفوا بأنهم يسدُّون البُثوق، وينقذون الغريق، ويطفئون الحريق، ويمشون في السوق، هؤلاء الذين غدت لهم لغتهم الخاصة في التواصل وأساليبهم في الخطاب، وهل كان من الإنصاف، أو في منطق العقل أو في مقتضى الغَيرة على الأصالة أن نُخرج هؤلاء من رحابة التاريخ، ونرميهم بالنفور والازدراء، ونقمع حضورهم الاجتماعي الكثيف!هذا أبو عثمان الجاحظ (ت 255هـ)، معلِّم العقل والأدب، جامع ثقافات عصره في شتى العلوم والفنون، أديب الحياة العامة فضلاً عن كونه أديب الطبقات الرسمية؛ يكتب عن الحمقى والنَّوكى واللصوص والبخلاء وأصحاب الحِرَف والصناعات.. وينقل لنا ما تأدَّى إلى سمعه من محاوراتهم فيضع منهجاً مبكراً في حسم الجدل بين الفصحى والعامية، وذلك في نص لا يتجاوز الأسطر القليلة، وما أظن أحداً لم يتوقف عنده، وهو قوله: (وإذا سمعتَ بنادرة من نوادر العوام، ومُلحة من مُلَح الحشوة والطَّغام، فإياك وأن تستعملَ فيها الإعراب، أو أن تتخيَّر لها لفظاً حسناً، أو تجعل لها من فيك مخرجاً سَريّاً، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها ومن الذي أريدت له، ويُذهب استطابتهم إياها، واستملاحهم لها).
ثم قال الجاحظ في (الحيوان) 3/ 93: مؤكداً ضرورة موافقة الكلام لمقتضى الحال: (ولكل ضربٍ من الحديث ضربٌ من اللفظ، ولكل نوعٍ من المعاني نوعٌ من الأسماء، فالسخيف للسخيف والخفيف للخفيف، فإن كان موضع الحديث على أنه مضحك ومُلهٍ وداخلٌ في باب المزاح والتفكيه، فاستعملتَ فيه الإعراب انقلب عن جهته، وإن كان في لفظه سخفٌ فأبدلت السخافة بالجزالة صار الحديثُ الذي وُضع على أن يسرَّ النفوس يُكربها ويأخذ بأكظامها).
وعلَّل ذلك بقوله في (الحيوان) 1/ 282: (إن الإعراب يفسد نوادر المولَّدين كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب، لأن سامع النوادر إنما أعجبته تلك الصورةُ وذلك المخرج وتلك اللغة، فإذا أدخلتَ على هذا الأمر الذي إنما أضحك سخفُه وعُجمتُه حروفَ الإعراب والتخفيف والتثقيل وحوَّلته إلى صورة ألفاظ الأعراب الفصحاء وأهل المروءة والنجابة؛ إذا فعلتَ ذلك انقلب المعنى مع انقلاب نظمه وتبدَّلت صورته).
أفلا نرى في كلام الجاحظ هذا الاحتواء الدُّعابي الهادئ، وهذه المسالمة الوديعة لما يندُّ عن شِفاه العامة من طرائف الألفاظ ونوادر العبارات! ثم تبع أبا عثمان في هذا المنهج ابن قتيبة الذي جمع في كتابه (عيون الأخبار) ما تخيَّره من كلام البلغاء وفِطَن الشعراء وسِيَر الملوك وآثار السلف، إلا أنه لم يغفل العامة ولم ينحِّهم عن فصول كتابه، فقال في المقدمة: (وكذلك اللحن إن مرَّ بك في حديث من النوادر، فلا يذهبنَّ عليك أنَّا تعمَّدناه وأردنا منك أن تتعمَّده، لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حُسنه، وشاطر النادرة حلاوتها).
بل إن حضور العامية الكثيف لم يكن العلماءُ أصحاب الدرس اللغوي يتحاشونه ويستخفُّون به، فإذا تعرَّضوا لكلام العوام كان ذلك بغرض الحماية لقداسة اللغة الفصيحة، والتنقية لها من الشوائب والدخيل، فقد جاء في (شرح فصيح ثعلب) للمرزوقي ص355: (الحائط: اسم الفاعل من حاطَ يَحُوْطُ، والعامة تقول: الحَيْط).
مُهادنة بلاغية
إلا إن هذا الجدل ما فتئ أن اتخذ طابعاً عمليّاً تطبيقيّاً يؤكد المهادنة بين بلاغة العامة وبلاغة أهل البيان، فإذا كانت اللهجة العامية بتجلِّياتها التعبيرية قد نهلت الكثير من العبارات أو المفردات المأثورة عن الفصحاء، وأخضعته لما درجت عليه صياغتها من تحريف وتبديل؛ فلا غرابة في أن يستلطف الفصحاء أحياناً ذَرْواً من كلام العامة وأمثالهم فيُدخلوه في نسيج كلامهم وأشعارهم دون تحرُّج ولا تردد ولا أنفة، وهذا ما يطالعنا في بعض أشعار العباسيين ومَن تلاهم من شعراء العصور المتتابعة، لا سيَّما حين أخذ الشعراء والكتاب ينسحبون من قصور الخلفاء والسلاطين وذوي الشأن، وينزلون إلى الأسواق فيحترفون بعض المهن والصناعات، ويختلطون بالفئات الاجتماعية المختلفة في أماكن العمل ومحالِّ البيع والشراء، فحصل من جرَّاء ذلك بعضُ التقارب والتلاقح بين الأدب الرسمي والأدب الشعبي.
يروي نجم الدين بن الأثير في الفصل السادس من (المثل السَّائر) قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلمة الحكمة ضالَّة المؤمن، فهو أحقُّ بها إذا وجدها). فيقول: (ومنذ سمعت هذا الخبر النبوي جعلت كَدِّي في تتبُّع أقوال الناس في مفاوضاتهم ومحاوراتهم، فإنه قد تصدر الأقوال البليغة والحكم والأمثال ممن لا يعلم مقدار ما يقوله، فاستفدت بذلك فوائد كثيرة لا أحصرها عدداً).
ويتابع فيقول: (وبلغَني عن الشيخ ابن الخشَّاب البغدادي، وكان إماماً في علم العربية، فقيل إنه كان كثيراً ما يقف على حِلَق القصَّاصين والمشعبِذين، فإذا أتاه طلبة العلم لا يجدونه في أكثر أوقاته إلا هناك، فلِيمَ على ذلك، وقيل له: أنت إمام الناس في العلم، وما الذي يبعثك على الوقوف بهذه المواقف الرذيلة؟! فقال: لو علمتم ما أعلم لما لمتُم، ولطالما استفدت من هؤلاء الجهَّال فوائد كثيرة، تجري في ضمن هذَيانهم معانٍ غريبةٌ لطيفة، ولو أردت أنا أو غيري أن نأتي بمثلها لما استطعنا ذلك). ويعلِّق ابن الأثير بقوله: (ولا شك أن هذا الرجل رأى ما رأيته، ونظر إلى ما نظرت إليه).
تداول خِطابي
إن هذه الازدواجية اللغوية، أو لنقُل هذا التداول الخطابي بين نمطين لغويين لم يكن يضيق به حتى علماءُ القرن الثاني الهجري، فهذا السُّبكي في (مُعيد النِّعَم ومُبيد النِّقَم) ص72 يحدثنا (أن أبا عمرو بن العلاء (ت 154هـ) قصده طالبٌ ليقرأ عليه، فصادفه بكلَّاء البصرة (مجتمع السُّفن فيها) وهو مع العامة يتكلم بكلامهم، لا يفرق بينه وبينهم، فنقص من عينه، ثم لما نجَزَ أبو عمرو مما هو فيه تبعه الرجل إلى أن دخل الجامع، فأخذ يخاطب الفقهاء بغير ذلك اللسان فعظُم في عينه، وعلم أنه كلم كل طائفة بما يناسبها من الألفاظ).
ويرى ابن الأثير أيضاً في كتابه (الوَشْي المَرْقوم) ص4 أن على الكاتب (أن يعلم ما تقوله النادبة في المآتم، وما تقوله الماشطة عند جَلْوة العروس، وما يقوله المنادي في السوق على السِّلعة). وهؤلاء هل كانت لهجتهم إلا لهجة العوام، بها يتحاورون، وبمقتضاها يتفاهمون!
وفي هذا السياق ثمة خبر رواه الراغب الأصفهاني في (محاضراته) 2/ 399 تحت عنوان: (سرعة المكاره وتباطؤ المحابّ) قال: (كان لسفيان الثوري جارٌ مخنَّث، فمرض، فعاده سفيان بأصحابه، فقال: كيف تجدُكَ؟ فقال: إن العلل والآفات تجيء في الدنيا باقات، والعافية تجيء طاقات. فقال سفيان: ما خرجنا إلا بفائدة). وما قاله هذا الجار المخنَّث إنما هو مثل معروف أورده الطالَقاني في رسالته عن (الأمثال البغدادية) ص28. وأهل حلب يقولون اليوم: العافية بترو بالقنطار وبتجي بالمتقال.
وقد تنبه الحريري منذ القرن الخامس الهجري إلى ظاهرة التبادل السمح بين المستويين الأسلوبيين فقال في مقدمة كتابه (درَّة الغوَّاص): (فإني رأيت كثيراً ممن تسنَّموا أسنِمةَ الرتب، وتوسموا بسِمة الأدب، قد ضاهَوا العامة في بعض ما يفرط من كلامهم، وترعف به مراعف أقلامهم، فدعاني الأَنَف لنباهة أخطارهم، والكَلَف بإطابة أخبارهم، إلى أن أدرأ عنهم الشُّبَه، وأبيِّن ما التبس عليهم واشتبه). ومما يؤكد هذا التبادل ويثبِّته في الذاكرة التراثية استشهادُ أبي هلال العسكري في كثير من مواطن كتابه (جمهرة الأمثال) بأمثال للعامة توافق في معانيها أمثال الخاصة، ففي 1/ 377 يورد المثل العربي: (الحديث ذو شجون) ويبدأ تعليقه عليه بقوله: وهو على حسب ما تقول العامة: الحديث يجرُّ بعضُه بعضاً.
ولكننا مع هذا الانفتاح على العامة غير المتعلمين، والقبول بما تنطِق به ألسنتهم، وبما حفَلَت به أشعارهم من موضوعات خفيفة مستظرفة تبتعد عن وَقار الموضوعات المألوفة في الشعر الفصيح؛ لا نعدِمُ أن نجد من يترفَّع عن هذا الانفتاح، ويحذِّر منه، ويوصي باجتنابه، فقد كان القاضي الفقيه أبو الحسن الماوردي شديدَ التزمُّت والتحفُّظ في كتابه (أدب الدين والدنيا) ص459 حين قال: (ومن آداب المتكلم أن يتجنَّب أمثال العامة الغوغاء، ويتخصَّص بأمثال العلماء والأدباء، فإن لكل صنف من الناس أمثالاً تشاكلهم، فلا تجد لساقط إلا مثلاً ساقطاً، وتشبيهاً مستقبحاً).
أمثال العوام
والناظر في كتب الأدب والسَّمَر والثقافة العامة يرى كيف تناثرت في صفحاتها جملة مُستملَحة من أمثال العامة ونوادرهم وطرائف أقوالهم مما ينشِّط القارئ ويتنقل به في حدائق الأدب من لون إلى لون. ومع ذلك، فكما وجدنا كوكبةً من الأدباء قاموا بجمع الأمثال العربية القديمة وترتيبها في كتب جليلة، كأبي عُبَيد القاسم بن سلَّام وأبي عُبَيد البكري وحمزة الأصفهاني والزمخشري والعسكري والثعالبي والمَيداني والحسن اليوسي.. فحفظوا بها لوناً من ألوان النثر العربي المبين؛ فكذلك نهض عدد من الأدباء القدماء فتلقَّطوا من أفواه العامة أمثالهم الدائرة على ألسنتهم وجمعوها في كتب مرتَّبة، فخلَّفوا لنا بذلك إرثاً ثقافيّاً ولغويّاً لا يمكن إغفاله، فألف أبو بكر الخوارزمي (ت 383هـ) كتاب (الأمثال المولَّدة). ونجد في (حكاية أبي القاسم البغدادي) للمطهَّر الأَزْدي، وهو من رجال المئة الرابعة للهجرة؛ جملةً من أمثال أهل بغداد وأقوالهم. ومن هذه الكتب (رسالة الأمثال البغدادية التي تجري بين العامة) للقاضي أبي الحسن الطالَقاني المتوفى في النصف الأول من القرن الخامس الهجري.
وفي الأندلس نقع على كتاب (رَيُّ الأُوَام ومَرعى السَّوَام في نُكَت الخواصِّ والعوام) لمؤلفه الزجالي القرطبي (ت 694هـ)، فقام الدكتور محمد بن شريفة بانتثال عدد ضخم من الأمثال الواردة فيه وجعله في كتاب سمَّاه (أمثال العوام في الأندلس) وأوسعه بالشروح والتعليقات، فحفظ لنا بذلك صورة المجتمع الأندلسي وملامح لهجته بكل ظواهرها الصوتية والأسلوبية. ثم جاء بعده ابن عاصم الغرناطي (ت 829هـ) فألف كتاب (حدائق الأزاهر) خصَّص فيه الحديقة الخامسة للأمثال الأندلسية مرتبة على حروف المعجم دون أن يمسَّها بتفصيح أو تنقيح، متَّبعاً بهذا الصنيع طريقة سلفه الزجالي. ثم لا ننسى الأَبْشِيهي (ت 850هـ) الذي خصَّص الفصل الثالث من الباب السادس من كتابه (المستطرَف) لأمثال العامة والمولَّدين.
وبإطلالة سريعة على العصر الحديث نجد العلَّامة المحقق أحمد تيمور باشا قد وضع كتابين اثنين في الأدب الشعبي هما (الأمثال العامية) و(الكنايات العامية). وأما عميد الرحَّالة العرب الشيخ محمد بن ناصر العبودي فقد أتحف مكتبة التراث الشعبي بكتاب في غاية الأهمية هو (الأمثال العامية في نجد) بأجزائه الخمسة، وزوَّد كل مثل بالشرح اللغوي والدلالي مع ربطه بما أُثِر عن العرب في معناه. ثم تلا تلوه العلَّامة اللغوي خير الدين الأسدي فأضاف كتاباً جليل القدر عظيم الفائدة هو (موسوعة حلب المقارنة) في سبعة أجزاء، التزم فيها المنهج المعجمي في تفسير الألفاظ العامية وردِّها إلى أصولها، ثم ضمَّنها الآلاف من المنطوق العامي المتداول في معظم بلاد الشام من أقوال وأمثال وحكم وتهكُّمات، بالإضافة إلى طائفة مما أبدعه الخيال الشعبي من صور بيانية كالتشبيهات والكنايات والاستعارات. وما أظن بلداً عربيّاً خلا من باحثين استهواهم الأدب الشعبي فنهضوا يسجِّلون تراث بلدهم اللامادِّي وفي مقدمته الحِكَم والأمثال ونوادر الحكايات.
وأعود إلى جدل التراث فيتلامح أمامي نصٌّ لا يخلو من طرافة، كما لا يخلو من فائدة، نص مُهادن سَمْح، يظهرنا على قرب المسافة بين متحاورَين اثنين تتعاظم المودَّة بينهما كلما استمرَّ الجدل وتواصل الحوار.
ففي (البصائر والذخائر) 9/ 50 سرد أبو حيان التوحيدي نُتفاً من معتقدات العامة الخرافية فقال: (وهذه النُّتف بعضها مسموع من العامة، وبعضها مروي عن الخاصة التي تروي عن العامة). أفلا نرى في عبارته هذه دليلاً ساطعاً على أن الخاصة كانت تستلطف ما يزلُّ عن ألسنة العامة من طرائف الأمثال ونوادر المعتقدات، ثم ترويها في مجالس العلم ومنتديات الأدب على أنها جزء من الثقافة العامة المشتركة! إنه أبو حيان الذي تتردَّد في مؤلفاته مختلف الأصوات المعرفية في عصره الذهبي الناضج. ثم يستعرض بعضَ هذه المعتقدات، فمنها قولهم: (وإن حكَّه أنفُه قال: أكل لحم). فيُنَصِّب أبو حيان نفسه محامياً عن هؤلاء العوام ويعقِّب بقوله: (هكذا يقولون، فلا تؤاخذ العامة في اللحن، فإن الصواب في المعنى والإعراب في اللفظ عَرِيَّان من قُضاتك وعُدولك وشيوخك).
المستوى التطبيقي
وعلى المستوى التطبيقي دعونا نتلمَّس بعض اللوحات التراثية التي حفظتها لنا كتب الأدب، أنتقي منها واحدةً فقط: فهذا ابن خَلِّكان يحدثنا في (وَفَيات الأعيان) 3/ 108 عن ابن برِّي (ت 582هـ) أحد علماء العربية النابهين، الذي كان قد أُوكِلَ إليه التصفُّح في ديوان الإنشاء، لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفَّحه ويصلح ما فيه من خلل خفي، فيذكر ابن خلكان أنه كان (لا يتقيَّد في كلامه بالإعراب، بل يسترسل في حديثه كيفما اتفق، حتى قال يوماً لبعض تلامذته: اشترِ لي قليل هِندبا بعروقو. فقال له التلميذ: هندبا بعروقِهِ؟ فعزَّ عليه كلامه، وقال له: لا تأخذه إلا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو فما أريده).
ونعرف أن هاء الغائب تقلب في معظم عاميات الأقاليم العربية واواً، ثم استفاض هذا القلب على ألسنة الخواص والعوام في كلامهم الدارج، ووجد له في الأزجال والمواويل وفنون الغناء الشعبي مرتعاً خصيباً، حتى إن المنظِّرين لفنِّ الزجل والمقعِّدين للغته قرروا أن إبقاء الهاء على حالها يعدُّ من الأخطاء المَعيبة فيه.
نعود إلى الأمثال العامية، ونعجب من المَيداني كيف كان في غاية العدل والإنصاف حين ألحق كل باب من أبواب كتابه (مجمع الأمثال) بطائفة من أمثال المولَّدين التي كان للعامة حظ واسع في إبداعها، إلا إنها لا تختلف عن الأمثال الفصيحة في كونها صورةً مجلِّية للتفاعل الديني والاجتماعي والثقافي في المجتمع العربي الإسلامي؟ أم لأنها أيضاً ذات بُنى إيقاعية جمالية مميزة وإن مالت إلى التساهل في بعض المفردات والتراكيب؟ أم لقوة تأثيرها وقدرتها على اقتحام مواقع أهل الفصاحة والبيان، بحيث نراهم لا يتعفَّفون عن توظيفها في نثرهم وشعرهم على حدٍّ سواء؟
فقد روى المقري في (نفح الطيب) 1/ 463 عن الحضرمي أحد أدباء الأندلس أنه أقام في سوق الكتب بقرطبة مدَّة يبحث عن كتاب معين له به اعتناء، حتى عثر عليه بخطٍّ جيد وتسفير مليح، ففرح به، فإذا بشخص عليه لباسُ رياسة أخذ يزيد في ثمنه حتى عَجَز الحضرمي عن الزيادة، وعلم أن هذا الشخص ليس بعالم ولا فقيه، وإنما أراد بهذا الكتاب أن يجمِّل خزانة كتبه بين أعيان البلد، فأُحرج الحضرمي واغتمَّ، وقال له: (نعم، لا يكون الرزق كثيراً إلا عند مثلك، يعطي الجوز مَن لا عِنده أسنان، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلاً، وتَحُول قلَّة ما بيدي بيني وبينه).
فلننظر كيف نزل هذا المثلُ العامي في موقعه من سياق الكلام وكأنه جزء منه أو قطعة من تكوينه! ثم لننظر كيف أنه موغل في القِدَم وإن كان لا يزال شائعاً بصيغ متقاربة!
بل قد تتَّسعُ دلالة المثل العامي حين الاستشهاد به إلى فضاء التأويل الصوفي دون الإخلال بمنطوقه اللفظي، فمن جملة هذه الفيضيات يقول المتصوِّف الشاذلي سيدي علي وفا (ت 807هـ) في كتابه (المسامع) ص91: (اسمع: (خَلَقَ الإنسانَ مِن صَلْصالٍ كالفَخَّار) (الرحمن: 14) لا يتدرَّج إلى كماله إلا بذوق حكم جماله ثم جلاله، كالفخَّار، لولا انكسارُه ما توسَّعت أطواره، أما سمعتَ الناس، وألسنةُ خلقهم أقلامُ حقهم، يقولون: لولا الكاسورة ما عمرت الفاخورة؟! فلولا الانخرام ما تجدَّد نظام، من لم تنكسر أنَفَةُ نفسِه، لم يجد الفخرَ بروح أُنسِه).
ويعود في كتابه الآخر (الواردات الإلهية) ص19 فيستشهد بمثل عامي يتطاول إلى القرن السابع الهجري، فيقول وهو يعلِّق على الآية الكريمة: (وما على الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِن حِسابِهِم مِن شَيءٍ) (الأنعام: 96) ويعيد الضمير في (حسابهم) إلى المتقين لا إلى الذين يخوضون في آيات الله: (فحسابهم تنبيه لمن ضاق وقتُ صلاته وهو نائم، من باب: الكلام لك يا كنَّة واسمعي أنت يا جارة).
صِلةٌ وَثيقة
العامية إذاً بكل تجلِّياتها التعبيرية ليست لغةً مستقلة ولا منفصلة عن أمها الرؤوم الفصحى، إنها ابنتها وربيبتها، من ضروعها تغتذي، ومن أحواضها تستقي، وإن أغراها الطمعُ فيما بعد فاشتطَّت وتمادت، وتجرأت على التحريف والتبديل، وطبعت نفسها بطوابعَ إيقاعية خاصة، فأمالت، وفخَّمت، وأهملت الإعراب فسكَّنت، واختزلت، وخففت الهمز، وتصرفت في النحت والاشتقاق على غير قانون نحوي ولا قاعدة صرفية، وتوسعت في دلالة العبارة الفصيحة كما شاء لها الفهم والدراية والتصرف.
في المثل العامي التهكُّمي الذي اختطفته العامة من أفواه الفصحاء منذ القديم، وهو قولهم: (عذر أقبح من ذنب) أورد المعافى بن زكريا في كتابه (الجليس الصالح) 4/ 42 قولَ الشاعر:
رُبَّ حَقيرٍ منَ الذُّنوبِ عَظَّمَه العُذرُ في القُلوبِ
أبداهُ ذو غَفْلةٍ وخُرْقٍ فجاء يُوفي على الخُطوبِ
ثم أتبعه بقوله: (وقد ابتذلت العامة هذين المثلين: عذرُه أشدُّ من ذنبه، واضربه على ذنبه مئة وعلى عذره مئتين).
ومصطلح (الابتذال) الذي استخدمه المعافى واستخدمه غيره أيضاً لهذا الأمر كان كثيراً ما استخدمه أبو عُبيد القاسم بن سلَّام (ت 224هـ) في (كتاب الأمثال) الذي غَصَّ بأمثال العامة مقرونة بأمثال الخاصة، ففي ص372 أورد المثل: (أسرعُ مِنْ نِكاحِ أُمِّ خارجة) ثم قال: وهذا مثل قد ابتذلته العوام. وكذلك وقع في كلام المَيداني في (مجمع الأمثال) 1/ 307 إذ قال بعد أن أورد المثل (رَباعيُّ الإبل لا يَرتاعُ من الجرس: هذا مثل تبتذله العامة).
وابن سلَّام ومن جاء بعده لا يَعْنون بالابتذال ما عَلِقَ في أذهاننا من الدلالة على الاستقباح والتحقير والإساءة، وإنما عنَوا به أن العامة أشاعوه وكثر استخدامهم له في الساحات الغاصَّة، بعد أن كان مقصوراً على مجالس الخاصَّة، وبمعالجة بنائية ماهرة أعادوا إنتاجه، ثم جعلوه بِذلة يحقُّ لسائر أفراد المجتمع أن يردِّدوه ويستشهدوا به.
ومن نوادر تصرُّفات العامة بالكلام الفصيح ما تنبَّه إليه المعافى بن زكريا أيضاً في كتابه (الجليس الصالح) 4/ 24، فكلُّنا يسمع أو يردِّد قول أهل حلب وسواهم: (أنا عاجنك وخابزك). ويريدون بهذه العبارة التي تقترب من الأداء الكنائي: أني جرَّبتك كثيراً وعرفتك، ولن يخفى عليَّ خداعك ولا احتيالك. فاسمعوا ما قال المعافى وهو من رجال القرن الرابع الهجري: (يُقال: عَجَمتُ العُودَ أعجُمه عَجْماً: إذا عضَضتَه، ويقال: عَجَمتُ العُودَ لأعرف صلابته. ومن كلام الخاصة: عَجَمتُه وخَبَرتُه، يشيرون إلى هذا المعنى. فقلَبَته العامة وصحَّفَته فقالوا: عجَنْتُه وخبَزْتُه، وقصدوا هذا المعنى وأتَوا بلفظ مشاكل، وإن كانوا أحالوا الكلام عن أصله). فانظروا ممَّ نعجَب، أمِن تاريخ هذه العبارة الذي تجاوزَ الألف عام؟! أم من المعافى بن زكريا حين التقطَها وحلَّلها بفِطنته وبلاغته اللغوية، وحفظها لنا إلى اليوم؟! أم من العامة حين يتجرؤون ويتفنَّنون بالتحرُّش بالكلام الفصيح!
وأهل اليمن لا يزالون يقولون إلى اليوم: هذا خَبزي وعَجني. فيعدونه مثلاً يضرب لمن اختبرته تماماً وعرفت سلوكه، فلا يستطيع أحد أن يقنعك باستقامته. أما أهل نجد، كما عند الشيخ محمد بن ناصر العبودي في (الأمثال العامية في نجد) 2/ 452، فيكتفون بقولهم: خَبز يدي. وقال: أي كالرغيف الذي خبزته بيدي. يقوله الرجلُ في وصف من يعرفه حقَّ المعرفة. وكأن هذا المثل يحتكُّ بالمثل العربي: (أتُعْلِمُني بضَبٍّ أنا حَرَشتُه!). أي: أخرجته من جُحره فاصطدته.
وعلى هذا فبين المأثور العامي والمأثور الفصيح تعالق وتعاشق، وتبادل خبرات وتوريث مقتنيات، حتى إن بعض العبارات المتداولة اليوم والضاربة في عُمق التاريخ لا نعبأ بمعرفة مخترعها الأول، ومزيح الستار عن وجهها البهي.
فمن هذه العبارات كناية كثيراً ما لامست أسماعنا، وهي قول أحد العامة: عدَّى على راسي كتير. يريد: بَلَوتُ الكثير من المصائب والمحن. واختاروا الرأس لأنه موضع الأثقال المعنوية لا الكتف التي هي موضع الأثقال المادية. فمنذ القرن الثاني الهجري نسمع أبا نُواس يتشكَّى فيقول:
كَفَاكَ ما مرَّ على راسي
مِنْ شادِنٍ قَطَّع أنفاسي
أكثرُ ما أبلُغُ مِنْ وَصْفِهِ
تحَدُّثي عن قلبِهِ القاسي
ومن القرن الرابع يُطل علينا أبو بكر الخُوارِزْمي فيقول في بعض رسائله ص186: (ومرَّ على رأسي ما لو مرَّ على رأس الشابِّ لشاب، ولو نزل بالحديد لذاب). ومن الأخبار الطريفة التي رواها الصُّولي في (أدب الكُتَّاب) ص109 أن رجلاً من الكُتَّاب كان يهوى مغنِّيةً ويكاتبها، فكانت تخرِّق كتبه وتأمره بتخريق كتبها، مخافةَ أن تقعَ الكتبُ في يد أحد فيُفتَضَح أمرُهما، فكتب إليها: إني أحتفظ بكتُبكِ وتتهاوَنين بكتبي فتخرِّقينها! فكتبت إليه تلومه:
ياذا الذي لامَ في تخريقِ قِرْطاسي
كم مرَّ مثلُكَ في الدُّنيا على راسي
الحَزمُ تخريقُهُ إن كنتَ ذا نظَرٍ
وإنما الحَزمُ سوءُ الظنِّ بالناسِ
خُلاصة القول
ما الذي يمكن أن نخلص إليه مما تقدَّم؟
هل عانى أجدادُنا منذ العصور العباسية، عصور الاستقرار المديني والازدهار الحضاري ما يسمَّى بازدواجية اللغة، بحيث أثَّرت في ملكاتهم الإبداعية وتوثبهم المعرفي، سواء في مجال العلم أو في مجال الأدب؟ أم إنهم نظروا بعين العقل إلى هذه الازدواجية فعدُّوها من سُنن الحياة وقوانين التطور، فتركوا للعامة أساليبهم في الخطاب اليومي وانصرفوا إلى ثوابت الفصحى وأصالة مكوِّناتها وطواعية أساليبها، فجعلوها حاضناً مكيناً لما تفتَّقَت عنه عقولهم وقرائحهم في مختلِف العلوم والفنون؟
يقول عباس محمود العقاد في كتابه (ساعات بين الكتب) ص131: (إن في كل أمة لغةَ كتابة ولغةَ حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق).
ولا يخفى على الباحث أن العامية في العهود المملوكية وما قبلها ليست كعاميتنا اليوم، فالعامة في تلك العصور كان لديهم حظٌّ من الثقافة العربية الشفوية التي كانوا يكتسبونها من حَلَقات المساجد ومجالس العلم ومخالطة أهله، ولا سيَّما ما يتعلَّق بالأقوال المأثورة التي تتخلَّل الأحاديث ويحلَّى بها الكلام.
ومع توسُّع الاهتمام بالعامية في عصرنا الحاضر بسبب توسع الاهتمام بخصائص الشعوب ومقوِّماتها النفسية والذهنية والاجتماعية، ونموِّ الدراسات الخاصَّة بالتراث اللامادي والسعي إلى حفظه بأنواعه المتعدِّدة؛ فإن العامية كانت ولا تزال أضعفَ من أن تزاحم الفصحى في مواقعها المكينة، وأن تكون خطراً عليها، وإنما الخطر يكمن في هجوم لغات أُخرى طرقت حصوننا منذ بدأت هجَمات الغزاة والمحتلِّين، سواء أكانت هجَماتٍ عسكريةً أم ثقافية، إذ اللغة ليست مجرَّدَ تسميات للملابس والأزياء أو لأدوات المطبخ وغيرها، وإنما هي حاملٌ لقيم غريبة وتفكير مستجد وأنماط مستحدَثة في المعتقد والسلوك.
هذا ابن حزم الأندلسي الفقيه ينبِّه على هذا الأمر الخطير وينذر به منذ عهد بعيد في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) 1/ 32 فيقول: (فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيِّد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوةُ دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم، فأما من تَلِفَت دولتهم، وغَلَب عليهم عدوُّهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذلِّ وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موتُ الخواطر، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيود علومهم، هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة).

ذو صلة