مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

بذور الذكريات(11)

في الذكريات عندما تمسك بنواصيها عائداً لماض كان قد مثل في حياتك ومر عليه من السنوات الكثير، فعند محاولتك تدوين ذلك لغرض الذكرى وإحياء ما توافر من بقايا في مخزون الذاكرة وما هو عالق بها بالتوازي مع الراهن المعاش، تتصور الذات وترسم مما علق بها من شيء ليس هو كما تتصور، إذ تخال أنت أن ما تكرره هو لم يتغير، هذا في حسبانك، ولكن للسنوات وتراكمها تأثيرها في تغيير بواطن ما مضى كما يتأتى من عامل الزمن من تأثير على الشكل الذي يطال المضمون بلمسات يخيل أنها كانت بشكلها ولكن الزمن له تأثيره، فيكون في التقديم والتأخير، والتجاوز بفعل النسيان، ومن هنا كنت وسمت ما أسجله بـ(ذكريات لا مذكرات) لكون المذكرات تُلزم بتسجيل الحدث وتاريخه وذكر أسماء الأشخاص الذين كان لهم علاقة به، بمعنى النقل الحقيقي والحرفي للحدث وجلبه من الماضي للحاضر كما هو من جميع نواحيه بصورته التي كان فيها في الوقت الماضي، فلهذا يكون الفرق واضحاً بين الذكريات والمذكرات، فكانت الذكريات التي استمرت ما يقارب العامين (خطوات قلم 27 حلقة) وهي تَسرد ما سجلته الذاكرة مما مر في حياتي من بداية النشر في الصحافة حتى اليوم.
لكل شيء بداية وقد ذكرت الشيء سابقاً وهو الكتابة في الصحافة والعمل بها وما هي الروافد والعوامل التي جعلت مني كاتباً وشاعراً وصحفياً، لكن ما قبل الخطوة الأولى، لابد أن هناك أشياء سبقتها، فأقدمت على أن أكتب (بذور الذكريات) وهذه تكون عن ما كان قبل الذكريات، ففي سن الطفولة تكونت البذور، أولها ما سمعت عن حياتي من والدي وكيف كنت قبل أن أدرك ما يدور حولي وكيف كانت تصرفاتي التي بعدما وعيتها، فتكون حالة الشعور بالنستالوجية التي تعني (تذكر أيام الطفولة، وأحداث من الماضي.. جميلة وعكسها) وقد ذكرت فيما سبق تلك البذور التي تمددت حتى قدمت شاعراً أصدر باكورة إنتاجه مغامراً في وقت كان لا يرى في الشعر سوى الشعر التقليدي المتمسك بقواعد وعروض وأوزان الخليل بن أحمد، ولكن كان الحظ موافياً ومواتياً، إذ كان قبول الديوان (رسوم على الحائط) له أثره في حل عقدة (الشعر العبد -كوصف الشاعر محمد بن علي السنوسي، وبعر الكبش- كقول أبي عبدالرحمن بن عقيل، ويماثلهما الكثير مثل علي العمير، وأبو تراب الظاهري، وعبدالعزيز النقيدان) وغيرهم كثر، وتبعت الرسوم بـ(خيمة أنت والخيوط أنا) وكان له مكانة مرموقة، وترجم إلى الإنجليزية بعنوان (عندما بانت سعاد/when suad parted)، ثم تتابعت إصداراتي الشعرية، إذ تعددت طبعات بعضها وبلغ عددها أكثر من عشرة، وفي القادم جديد يواكب النهضة الأدبية والفكرية والثقافية العامة، مع ما تشهده السعودية من تطورات في مجالات عديدة وانفتاحها على الثقافات العالمية.
لقد تكونت الخصوصية باستقلال الهاجس الكتابي الذي توجه نحو الشعر، فالخصوصية ظهرت بعد المحاولات التي تُبْذل جادة لتأكيد الذات، فيكون التحدي الذي قد يفسر على مسح ما كان ومعاداته ووسمه بالسطحية والرومانسية حيث إن الواقع كما يُتَصور قد صار طابعاً له ويتشكل معه بعطاءاته، فإذا كان هناك تصويبات فإن أخطاء قد تنتج في الدرب، ولكن هناك العزم الذي يساعد على أخذ لقطات على البعد ويبني عليها المستقبل الذي يحدد مداركه، فمهما كانت البدايات فلا أحد يستطيع أن يكون أنت كما أنك لا تستطيع أن تكون هو، فلا بد من الخاصة أو الخصوصية المحددة للذات ومجهودها، وذلك بالتفرد الذي يدل عليك أنت خصوصاً في الشعر، فأحمد شوقي واحد، ونزار قباني واحد، وكذلك بدر السياب واحد، وسعيد عقل وغيره، الشاعر هو لا غيره، فالمكرر والمعاد نُبِذا قبلاً من قِبَل الناقدين والمتلقين، والإبداع يتّسع باتساع خلفية المبدع الثقافية، فكلما زادت مساحة الاطلاع والمتابعة، جلبت له الآفاق التي يختار ويشتار ما يعتمل مع ما في ذاته من مشاعر وآمال يصوغها في قوالب من صناعته، وتكون خاصية في شعره، وهي الخصيصة التي تميز قصيدة عن أخرى، فبداية الكتابة تتواصل حتى تتحول إلى ضرورة في حياة الكاتب أو الشاعر وتحول إلى الحياة فيمر بمراحل تغير إلى الأفضل كلما تتابعت خطواته.
بدأت بكتابة الشعر التقليدي، ثم كتبت الشعر الحر، وعندما عزمت على إصدار ديوان اخترت من قصائد الشعر الحر (التفعيلة).
وكانت القصائد تتجه صوب الحياة الاجتماعية، وتبعاً للأحداث أخذت ناحية السائد وقتذاك في القضايا العربية، ولها خاصيتها في طريقة التناول حسب الأحاسيس الذاتية والفرادة في التناول، فصار أن كان الإنسان والإنسانية الغالب فيما لحق ولازال، فالإنسان محورٌ أساسي في الشعر لأن الشعر كتب له، ولأنني إنسان فإحساسي يحتم أن تكون مشاركتي تلقائية، ففي النصوص التي كونت أحد عشر ديواناً كنت كما يذهب الناقد محمد ماهر بسيوني في وصف كتابات عبدالفتاح صبري: (نصوص عابرة الأجناس وعلى تخوم الفنون تجد فيها الإيقاع الشعري والمشهدية السينمائية مع السرد والحوار المسرحي مشكلة تقاليدها شديدة الخصوصية.. ذَهَبَتْ بجرأة بالغة إلى كل الفنون الأدبية والجمالية مستعيرة وآخذة وناهلة منها ما وسع ذلك)، قد يلمس بعض ما قاله في بعض شعري كما في قصائدي (مرجان/ الموءودة/ ورقة مهملة من دباس إلى أبيه/أوراق من دفتر عسة/ابتعد عنها ودعني) وذلك بما يؤكد الخصوصية التي آليت على نفسي أن لا أنساق وراء التقليعات التي توحي بالتماثل والتقليد، ويؤكد ما ذهبت إليه ما ذكره الناقد الحداثي الكبير د. عبدالله الغذامي بقوله في مقدمته للجزء الأول من الأعمال الشعرية الصادر عن دار المدى: (ما قرأت قصيدة لسعد الحميدين إلا وشعرت أنني لست أمام شعر فحسب بل أيضاً أمام لوحة إنسانية فيها أرى الإنسان الريفي بكل سماته لباساً ورقصاً وهموماً ولغة وإيقاعاً، حتى أننا لو حللنا الإيقاعات العروضية في شعره لوجدناها على أوزان المجرور والهجيني، ذلك لأنه خرج من رحم هذه الإيقاعات وأحس بها وبأهلها فتمثلهم ومثلهم)، وأضيف أنا بأنني ضَمّنْتُ بعض قصائدي بالمجرور والهجيني والسامري، وأفتخر بأنني أول شاعر سعودي عمل ذلك وأصدر أول ديوان حداثي طبع في السعودية (رسوم على الحائط) ثم طبع ثانية وطبعة ثالثة في مصر والرابعة في سوريا ضمن الجزء الأول من أعمالي الشعرية.

ذو صلة