مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

صلاة الجبل

باسم الخوف
الذي احتد
حتى أصبح صلاة
باسم الحقيقة
وهي تلتقط أنفاسها بالتهاويم
وباسم الرياح
وهي تدافع
عن حقها في التعرية
عودي أيتها الحصاة
ليستعيد الجبل
سيرة ظله الهائل
وتستعيد الألواح كلماتها
فمنذ أن انفرطت مسبحة العراف
والشعر مشغول
بلم شمل الكواكب
(لم يكن جبلاً) بل لغة ماتت واقفة فتكفنت بالصخور، إلا أن الشعراء ما زالوا يتناسلون من رحمها واحداً تلو الآخر، يميطون اللثام عن ليلها، فتبدو النجوم شاهدة على من مروا وتركوا جرارهم معبأة بالتمور..
لم يكن جبلاً، لا، ولم تك أضرحة، تلك التي اتخذت لها متكأً في الزمن، ترمق من يمرون بكاميراتهم، ساخرة من فنائهم في خلودها، مر الرواة، مر السواح، مر اللصوص، ومر منقبو الآثار، وبقيت ضحكات الشعراء تكيل للفناء السخرية، أجراساً معلقة في الأبد.
لم يكن جبلاً، حين التف حوله الشعراء يلقون تعاويذهم، يحرسونه من الكناية، بأفواه أكثر حدة من الأزاميل، وبكلمات متقطعة ينقرون الصمت، حتى تتجلى صرخات الدادنيين المدفونة في الرمال، ها هم يجيئون يحملون قرابينهم مرتعدين أكثر منها، هل كانوا يعلمون أن الشعراء هم ورثة الجرار المعتقة، والحراس الشخصيون للدروب نحو السماء، يرتقون كل ليلة دون أن يثيروا الغبار وهم في طريقهم للنجوم.
لم يكن جبلاً، هذا الَدُّهِشُ بتكرار سيرته، بين كل حين، هذا المار، من بين الوقت، الواقف في سديم المكان، هذا الذي من فرط ما حنت ظهره التآويل، ما عاد يصدق وجهه في النجوم.
لم يكن جبلاً بل جمجمة تزمَّنَت فيها العتمة، يدخلها العشاق مواعيد مرتجلة، ويعودون منها ذكريات حافية إلا من الكلمات، أو ربما كان ما نزف من الوقت حتى تخثر في كف أحدهم وهو يلوح بالرحيل، نزف لم يفتنه المشي فاختار الوقوف، ينز مواعيد لا تشير إلا إلى نفسها.
لم يكن جبلاً حين ابتسم لضحكتها وهي تخلط كوثرها في الرمال، فتغار سيدة البيت، فتضج أضرحة وقرابين.
يا نزفاً صلداً
توجته الرمال سيدها
ها قرابين ضحكتها تستنطق الميتين
ها وجع كوثرها
حين تمشيك، مخلوطاً برمل انتظارك
وها برجها
داخ فيه عراف الكلمات المسحورة
وها رحيلها كفارة
هب لدموعها ضريحاً خالداً
هب لمشيتها قصراً وسمه بنجومها
هب لوقتها وقتاً
يقف إلى جانبي
لم يكن جبلاً، بل ما وسمته الرياح: آيات قديمة تهدي غيمة ظلت عن سربها فأمطرت من حدة الفقد، وقبل مجيء الرواة، اخضرت الوحشة في العراء
ولم تكن صخرة تلك الغافية على الجرف، بل قبيلة النصال العتيقة، حليف القتلة قبل مجيء الكتابة، قابلة الذكريات الوحيدة، الشاهدة على رعشة الأرض، والهدأة الأخيرة للقرابين المرتعدة بدمائها حتى ألسنة الرواة
يا نصر الفانين على الخلود
بخدش وجهه للمرة الأولى
لا أسألك نصلاً عتيقاً
للثأر من العدم
بل أسألك:
كيف حفظت ما مر من لغاتهم
ونسيت ما نقشته الفتاة من عطرها
لم يكن جبلاً، ولم نكن وقت جئنا خفافاً مسحورين بالرمل الذي أضاعه عرافوه، فتناهبته الرياح، قل يا أيها الرمل عن الخطى والخطاة، عن القوافل محمومة بالرحيل، عن المتاع الذي صار كله سقطاً أقل من الحلم، قل إن الدروب سواء متى ما فقدنا المخيلة، والمشي مؤلم إذا تعبت مفاصل الطريق، قل لحجارتك شيئاً ثم غص في سباتك، قل (إن الطريق هو الطريقة) والحلم خدعة السير ..
منحناك عتاوة الظن في وجه الحقيقة
تنازل الشتاء في الظهيرة،
منحناك خطو أرواحنا
متى غيرت طريقها القوافل،
منحناك المخيلة،
لكي لا تفقد القيامة صبرها
منحناك فجاءة الوحي إن خذلك اليقين،
وقلنا كن ما لم تكنه
وامنح رواتك فرصتهم في الشك،
فاليقين ما قاله العراف: «والشعر مطية النجوم».

ذو صلة