مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

صرخة في الظل

في أزقة المدينة القديمة بتطوان، ووسط حارة الصفارين، حيث تتزاحم الأبواب وتتناسل الأقواس والدكاكين؛ يقع منزل المعلم مصطفى، ذلك الرجل الطيب المثقف الذي لفظته الأيام من العمل، وأخرجته إلى متاهات التقاعد الوظيفي. فبعد أن حصل على تقاعده من التعليم وجد نفسه محاطاً بسياط من الملل، وقد حاصرته أفواه المجهول التي تلاطمت حوله كأمواج البحر. كان الألم ينخر ما تبقى من جسده النحيل، وكان راتبه لا يكاد يحظى بقليل من الدفء في جيبه، فمرضه الذي تملك جسده ألزمه من الأدوية علباً مختلفة الاسم وأقراصاً شتى. وبين نفقة العيال وثمن الأدوية؛ وقفت ذاكرته لتسائل خياراته التي أوصلته إلى ما هو عليه اليوم. كان مصطفى معلماً محبوباً بين زملائه في العمل، وعند جميع التلاميذ الذين درسوا على يديه، ومدمناً على القراءة في تاريخ الأمم والشعوب، ومؤمناً بأن التاريخ يعيد نفسه، مهما اختلفت الأسباب والأزمنة، وصاحب بنية جسدية بارزة، ووسامة لا يخطئها النظر، لكن طول مدة عمله قد أنهكت جسده، ونخرت صلابته، وسرقت منه أجمل الذكريات.
يذكر ذات مرة حبيبته أسماء التي لطالما منّى النفس بأن تكون زوجة له وأماً لأولاده، تلك المرأة الأنيقة الحسناء التي ملكت عقله وقلبه، وشيد بمعيتها قصوراً من الأحلام والآمال، لكنه يذكر بألم كبير تنصلها مما كان بينهما من حب، لقد آثرت عليه رجلاً آخر من دون سبب معلوم. آلمه قرارها، وغرس خبر زواجها المفاجئ سهماً في قلبه، فعاش بعد ذلك قتيل الروح، منزوع القلب، مسلوب الإرادة. أما أهله وأصدقاؤه فقد اتخذوا من الخبر مادة دسمة لأحاديثهم الليلية، حتى إذا أصبحوا تنكروا بملامح الحزن والأسى واستقبلوه بكل عطف، وشفقة، وبسمة من نفاق.
في بداية تشرين الثاني، وكعادته عند أول يوم من كل شهر، توجه مصطفى إلى مكتب التغطية الصحية ليضع ملفه الطبي عند إدارتها، لقد قاده الأمل إلى مقرها بدافع من الحاجة، راجياً بذلك أن يقبل ملفه حتى يحصل على بعض من التعويض المادي عن أدويته التي تسطو على راتبه وتتوالد كلما أجبره المرض على زيارة طبيب آخر. كان اليوم متلبداً بالغيوم، وأضحت إرادته بذلك خائرة قلقة متوجسة، وكانت زوجته إلهام قد مر على تاريخ وفاتها شهران، أما بنته مريم فلم تحظَ بزوج بالرغم من بلوغها سن الثلاثين، لقد أرغمتها الظروف على أن تقوم بمهمة الأم، وأن تسهر على رعاية أخويها يزيد وعمران، فهي نسخة طبق الأصل من أمها في الطيبوبة، والتفاني، والعطاء.
عند منتصف شارع التحرير، وبالقرب من مسجد الكرامة؛ تنتصب عمارة حديثة البناء ذات واجهة زجاجية، وعلى شرفة طابقها الأول لافتة خاصة بإدارة التغطية الصحية للتعليم. كان الوقت ظهراً حينما وصل إليها مصطفى متأبطاً ملفه الطبي، وقد أتعبه المشي وحر الظهيرة، دلف إلى باب العمارة ودلفت قبله عكازته التي يستند إليها، ثم صعد الدرج إلى الطابق الأول، ليجد نفسه أمام طابور طويل يخترق ممر شقة فسيحة مفتوحة الباب، حينها توقف لبرهة عساه يسترجع بعضاً من أنفاسه التي تشظى زفيرها أثناء الصعود. تقدم قليلاً إلى مؤخرة الصف، وأسند عكازته إلى الحائط، ثم اتكأ عليه ببعض من كتفه الأيمن. كان الطابور يترنح من شدة الانتظار، وازداد ترنحه بحركة كبار السن من الموظفين الذين انشغلوا بانتظار نوبتهم عن كل شيء، لكنهم غرقوا في صمت من الحزن وأومضت أعينهم بكل معاني الضجر والقنوط. وبين الفينة والأخرى كان الواحد منهم يتقدم إلى مكتب الموظف المسؤول على تسجيل الملفات وختمها.
صحيح أن زمن الانتظار في مرحلة الشيخوخة ليس هو الزمن نفسه في مرحلة الشباب، وأن تداعياته تخيم بثقلها على الجسد والروح من دون شفقة، وأن الذي يتقدم به العمر يذعن لمنطق مختلف من الزمن الفيزيائي، لكن المعلم مصطفى ظل صامداً وحريصاً على دوره بالرغم مما أصابه من عياء الطريق، وبؤس الانتظار، وبعد مدة طويلة وجد نفسه أمام باب المكتب الذي لطالما تردد عليه. سحب ملفه الطبي من تحت إبطه، فتحه، تفحص أوراقه، ثم رفع بصره بحذر ليضعه أمام الموظف المسؤول. كم كانت صدمته كبيرة حينما أمره الموظف بضرورة التوجه إلى طابق آخر في العمارة، بدعوى أن مصلحة التعويضات قد استقلت بمكتب خاص بها في الطابق الثاني. نزل عليه الخبر كالصاعقة وحاصرته أسئلة مقلقة وكثيرة. لقد أحس بشيء من العرق البارد ينزل على ظهره، فبلع ما تبقى من ريق في فمه، ثم نظر للموظف نظرة طفل يتودد لأمه لعله ينجو من العقاب. استجمع أوراق ملفه من فوق المكتب الخشبي، وقفل راجعاً إلى الوراء، انعطف على جهة اليسار حيث الممر المفضي إلى درج الطابق الثاني، كان كئيباً محبطاً مضطرب الفكر، غير أن عوزه المادي حفزه على الصعود، وقبل أن يصل إلى المكتب وجد نفسه أمام طابور آخر من الموظفين والمتقاعدين. لقد بدأت لعبة الانتظار من جديد، وبدأ معها التعب يتفشى في جسده المنهك، لكنه قرر أن يحتج هذه المرة بطريقته الخاصة، قرر أن يتقدم عند الموظف المسؤول من دون احترام لقواعد اللعبة. تخطى الشخص الأول والثاني ثم الثالث كذلك، وكلما تجاوز أحدهم إلا وبدأت الأنظار تتطلع إليه في غضب وحنق شديدين، لم يأبه بذلك قط لأنه اتخذ قراره عن قناعة، وبالرغم من أصوات الاحتجاج التي بدأت تدوي واضحة من خلفه، إلا إنه تمكن من الوصول إلى المكتب بما تبقى في جسده من قوة، وضع ملفه على المكتب وهو يصرخ:
- أنا المعلم مصطفى، أنا الذي علمكم كيف تكتبون وكيف تقرؤون، أنا الذي أخرجكم من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم والمعرفة، أنا الذي مل من لعبتكم التي لا تنتهي. ألم يحن الوقت بعد لتكفوا عن إذلالنا واحتقارنا؟ أليس من حقنا -نحن معاشر رجال التعليم ونسائه- أن نظفر بشيء من الكرامة في آخر أيام حياتنا؟ هل من العدل أن ننتظر في طابور طويل، لينتهي بنا الانتظار إلى انتظار آخر؟ هل هكذا يكون مصيرنا؟ أليس منكم رجل رشيد؟ كان الموظف مستدبراً مكتبه يبحث في جارور خزانته عن أوراق إدارية تهم معاملة الشخص الذي يقف على يسار كرسيه، لكنه التفت نحو مصدر الصوت على حال من الانزعاج، ثم قال لصاحبه بصوت صارم:
- عليك أن تحترم نوبتك، ولا يحق لك أن تتجاوز غيرك.
أجابه مصطفى وشفتاه قد أزبدتا من كثرة الصراخ:
- أظنكم لا تحسون بمعاناتنا التي باتت تتكرر عند كل شهر، ولا يهمكم ما نعانيه من عذاب. هل يرضيك كل هذا من أجل الحصول على تعويض لا يسمن ولا يغني من جوع؟
- رمقه الموظف بنظرة من غضب، ثم قال له:
لا يهمني ما تقول، وأنا غير مسؤول عن وضعيتك الاجتماعية، فلست حزباً ولا نقابة ولا حكومة، أنا موظف أطبق التعليمات وكفى، وإذا لم تحترم دورك سأستدعي رئيس المصلحة.
- وماذا تنتظر، افعل ذلك الآن، فأنا لا أخاف إلا من الله تعالى، وأنّى لي أن أخاف وأنا واقف على شرفة القبر وجسدي لا يكاد يفتر فيه الألم ولو لبعض حين. هكذا تكلم المعلم مصطفى قبل أن ينتزع ملفه الطبي ويشرع في تمزيقه أمام الموظف المشرف على المكتب الخاص بالمصلحة. نعم لقد مزقه ورقةً ورقةً وأمعن في تمزيقه إلى قطع صغيرة جداً، وكان كلما مزق قطعة منه إلا وغمرته نشوة من اللذة التي سرت في جسده باردة بشكل غريب، ولم ينته من ذلك حتى تعالت من ورائه همهمات تشبه الشخير، فاضطر معها إلى الانصراف غاضباً إلى خارج البناية.
كان الغضب يتفجر من جسده حينما عبر الشارع من دون عكازته التي بقيت شاهدة على فصل من فصول حياته المؤلمة، لم يكلف نفسه النظر إلى يمين الطريق. خطا - وهو يطأطئ بصره على الطريق - خطوة واحدة ثم أتبعها واحدة أخرى وثالثة متباعدة عنها بعض الشيء، ومن دون سابق إنذار سمع صوت الفرامل الحاد وصراخ بعض المارة، لم يكترث لذلك، لأنه قرر أن يواصل السير بتؤدة واعتزاز، لكنه أحس بعجزه عن الحركة وبحرارة الإسفلت تحته، فالدم صار يتدفق من رأسه بغزارة، والمارة قد بدؤوا يتحلقون حوله، في حين ظل السائق الذي صدمه مذهولاً في سيارته إلى أن حضرت الشرطة وتسلمت بطاقة هويته ورخصة سياقته.
في مخفر الشرطة، بكت مريم بغزارة، ولم تستطع أن تتحكم في دموعها، وطفق أخوها عمران يكفكف عبراتها بمنديل ورقي. كانت مريم تبكي بحزن عميق، وكان الضابط المكلف بالمحضر يحاول أن يخفف عنها ببعض من العبارات الإنسانية النبيلة، لكنه اضطر بعد ذلك إلى أن يخبرها بأن السائق المسؤول عن الحادثة امرأة تعاني من ضعف البصر، ثم طلب منها أن توقع على محضر الحادثة. لم تتردد بنت المعلم في التوقيع على المحضر باسم مريم المسعودي، لكنها ترددت كثيراً في رفع القلم عن الورقة حينما وقع بصرها على توقيع غريمتها، لقد كان توقيعاً مذيلا باسم أسماء، وكان التاريخ يعيد نفسه كما آمن بذلك مصطفى.

ذو صلة