مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

من فلسفة الحياة

عندما قال الشاعر أبو العتاهية:
نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية
    طفل الملوك هنا كطفل الحاشية
ونغادر الدنيا ونحن كما ترى
    متشابهون على قبور حافية
أجده قد تحدث عن حقائق معلومة عن أي أحد من الخلق ولكن الاختلاف الحقيقي يكون في معترك الحياة و مكابدتها.
إن التفاضل في الحياة كتاب قد كتبه الله، وهذا في الواقع جعلنا غير ناسين لقوله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف: 32)
إنه لولا هذا التنظيم الذي نظمه الخالق لاختلطت الأمور، وعمَّ الخراب الأرض، وتركت الحياة بلا حياة.
إنه هنا تظهر الفوارق بين الناس، فكل ميسر لما خُلِق له، والله قد قسّم كل شيء:
فقسم الأخلاق، وقسم الأرزاق، ووضع الآجال.. وما على الإنسان إلا السعي في هذه الدنيا حسب قدرته وقدر ما كتبه الله له، إلا أن بعضهم ينسب ذلك لسوء حظ، أو كما يعتقد، قال (إدريس جمّاع) و قيل إنها لغيره:
إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه
    ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه
    إن من أشقاه ربى كيف أنتم تسعدوه؟
والآخر إلى الكسل، قال الشاعر:
يا بنيَّ اسمع وصايا جمعت
    حكماً خصَّت بها خير الملل
اطلب العلم ولا تكسل فما
    أبعد الخير على أهل الكسل
إن (الكسل) في نظر الناس جماع لكل فشل، وما دروا أن ما قد كُتب سيتحقق، صحيح أن هناك أناساً لا يحبون المغامرة، ويستسلمون لما هم يألفونه، فينسبون له الكسل، ولكن هناك أناساً يقدمون لكل ما يمكن الإقدام عليه، حتى الحروب والدفاع عن الأوطان، قال الشاعر ابن حمديس الصقلي:
بني الثغر لستم في الوغى بني أمي
    إذا لم أصُل بالعُرب منكم على العجم
دعوا النوم؛ إني أخاف أن تدوسكم
    دواه، وأنتم في الأماني مع الحلم
إن المكابدة في الحياة تخلق الفوارق التي تظهر بين الناس، وهي فوارق قد كتبها الخالق، ولذلك قيل: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً... أما التوفيق فهو بيد الله.
إن السعي في الحياة هو الذي يحقق للإنسان مكاناً ومكانة، وهذه حالة نسبية، ولذلك نجد أن من بين الساعين أمراء وخلفاء وقضاة وكتاباً، بل عامة الناس مما يعني صنوف المجتمع، وهذا السعي قد يؤدي إلى الغربة والترحال إلى أماكن بعيدة عن الأهل والأولاد والديار، فأرض الله واسعة، وقد يشعر الإنسان بضيق في أرض ويجد السعة في أخرى، قال الشاعر وهو يشعر بفراق الأهل و الديار:
أنا في الغربة أبكي
ما بكت عين غريب
وآخر في غربته، يشعر بازدواج في شخصيته، فلا هو للأرض التي رحل عنها، ولا هو للأرض التي وجد فيها مكاناً ومكانة، فقال راداً على أحدهم:
إن جسمي كما علمت بأرض
    وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر الله بيننا بافتراق
    فعسى باجتماع سوف يقضي
وهذان بيتان ينسبان للأمير الداخل، والمصادر تقول إنه قد تمثل بهما وإنهما أصلاً لمعاوية بن صالح القاضي، أحد قضاة الأندلس أيام الأمير الداخل نفسه، على أن موضوع الغربة قد تحول إلى موضوع فلسفي عند (ابن عبدربه- صاحب العقد)، إذ نجده قد قال:
الجسم في بلد والروح في بلد
    يا وحشة الروح، بل يا غربة الجسد
إن الحياة تقاس بمقاييس مختلفة، يختلف الحكم عليها من ذوق لذوق، ومن عصر لعصر، ومن حياة لحياة، وكل الأمور بيد الله.

ذو صلة