مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الإبداع الموسيقي حدود الاقتباس ودوائر الالتباس

لم تكن المنطقة العربية وأوساطها الفنية، بل حتى مؤسساتها القانونية بمنأى عن التيارات الدولية الدافعة نحو صياغة قوانين ولوائح تنظم الإشكاليات المتعلقة بالملكية الفكرية، بداية من حقوق مؤلفي المصنفات الأدبية، ووصولاً إلى المصنفات الفنية المتمثلة في الموسيقى والغناء والمسرح والسينما. وبموجب اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية لعام 1886 (الويبو)؛ يُحمى المصنف الأصلي لمدة لا تقل عن 50 عاماً بعد وفاة المؤلف، ولكن تبلغ هذه المدة 70 عاماً أو أكثر في العديد من الدول، تسقط بعدها في الملك العام، مع الاحتفاظ بالحق الأدبي، ويتسامح القانون في منح ثمانية موازير أو 30 ثانية، وهو معيار ملتبس، قد يكون مفيداً في الإبداع الموسيقي الغربي الكلاسيكي؛ غير أنه قد يكون غير مناسب في الموسيقى العربية التقليدية، وخصوصاً حال اقتباس موازير من ضروب مركبة مثل: المحجر والمربع وغيره من الضروب التي تتجاوز 24 نواراً في الطاقم الإيقاعي الواحد (المازورة).
ورغم حضور القوانين المنظمة للملكية الفكرية في معظم الدول العربية؛ فقد ساهمت التكنولوجيا في انتشار السرقات الفنية والنسخ غير القانوني، وذلك لاعتبارت مختلفة، قد يكون بعضها اقتصادياً وبعضها قيمياً وبعضها نتيجة التراخي وعدم الصرامة في تنفيذ هذه القوانين.
وقد كان من المفيد انتباه الدول العربية إلى أهمية قضية الملكية الفكرية، حيث سارعت العديد منها إلى إنشاء هيئات قومية للملكية الفكرية، بل ضمنت دساتيرها مواد تعلي من شأن الإبداع بشتى مجالاته، ودعت إلى احترام حقوق المبدعين في شتى مجالات الإبداع الفردي والإبداع الجمعي، أو ما نطلق عليه التراث الشعبي، وكذلك أنشأت لجاناً تحمل عنوان الملكية الفكرية، على غرار ما هو قائم ضمن لجان المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وأيضاً إنشاء كيانات متعددة، منها ما هو رسمي يندرج ضمن مؤسسات الدولة، مثل الرقابة على المصنفات الفنية، وعلى الرغم من كونها جهة رقابية تُعمل شروطاً فنية وقيمية للموافقة على نشر الأعمال الفنية، متمثلة في اعتماد نصوص الأغنيات والنصوص الدرامية والسينمائية؛ فهي كذلك تمثل أداة لإثبات المكلية الفكرية لأصحاب هذه الأعمال، ومن هذه الكيانات ماهو أهلي مثل جمعية المؤلفين والملحنين التي تعتبر فرعاً للجمعية الأم، ومقرها باريس، وهي تعنى بتحصيل حقوق الأداء الخاصة بأعضائها، وقد ترأس هذه الجمعية في ستينات القرن الفائت قامات مثل فريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب. ولا يفوتنا ذكر النقابات المهنية الفنية الداعمة لأعضائها والمدافعة عن حقوقهم، وهي أيضاً أداة يمكنها أن تلعب دوراً في مجال حماية الملكية الفكرية لأعضائها من المبدعين.
الوسائط المتعددة والإنتاج الموسيقي
لعبت الوسائط المتمثلة في الأسطونات التي استخدمت في تسجيل الغناء، في مصر وبعض الدول العربية، في أوائل القرن العشرين؛ دوراً مهماً في نشر الموسيقى والغناء، والحفاظ على هذه الثروة الباذخة من الإبداع الموسيقي والغنائي الممثل لما بات يعرف بمرحلة النهضة في الموسيقى العربية ومبدعيها الكبار، مثل: محمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم.. وغيرهم، وذلك رغم تكريسها قوالب بعينها مثل الطقطوقة، بل الإطاحة بقواالب مهمة مثل الدور الغنائي، وذلك لأسباب تتعلق بالمدى الزمني القصير لهذه الوسائط قياساً بما كانت تتيحه الوصلة الغنائية الحية التي تمتد لساعات، وتتيح المجال للمغني أن يصول ويجول دون محاذير الوقت.
الحقوق المادية والأدبية
ومما لا شك فيه أن العامل الاقتصادي والرغبة في تقسيم المنافع كان دافعاً قوياً لصياغة وتفعيل اللوائح والقوانين التى تنظم حقوق الملكية الفكرية وحقوق الأداء العلني للفنان، سواء كان ملحناً أم مغنياً، مع الأخذ في الاعتبار أن ثمة مشاكل تعترض حقوق العازفين في إطار الفرق الموسيقية، حيث يقتصر ما يتقاضاه العازفون من أجر على المشاركة في تسجيل العمل الموسيقي في الأستوديو أو الحفلة، فهؤلاء لا يشاركون الملحن (المؤلف الموسيقي) أو المغني حقوق الأداء العلني التى تحصلها جمعيات المؤلفين والملحنين وفق آليات قد تختلف من قطر لآخر، وإنما وفق أعراف تستقر أو تتغير لفض النزاعات التى قد تنشأ بين الفنان وشركات الإنتاج وحتى قنوات البث بمختلف أنواعها.
وتختلف آليات الإنتاج الموسيقي وفق ما يتفق عليه بين المبدع، سواء كان مؤلفاً للنص الشعري أم ملحناً له أو مغنياً، فعلى سبيل المثال كان هناك عدد من الفنانين يحرصون على أن يكونوا هم منتجي أعمالهم، ومنهم على سبيل المثال أم كلثوم وعبدالوهاب ومحمد فوزي وفريد الأطرش، بل كان منهم من أسس وامتلك وشارك في ملكية شركات الإنتاج الفني، فمثلاً شارك عبدالوهاب في ملكية شركة أسطوانات (بيضا فون)، ثم انفصل عنها وأنشأ شركة (صوت الفن) التي لم تكتفِ بالإنتاج الغنائي بل السينمائي أيضاً، ويذكر أن الفنان عبدالحليم حافظ كان شريكاً فيها، ويذكر أن الموسيقار محمد عبدالوهاب لم يرفض غناء غيره ألحانه التي أداها هو وغيره من المطربين، بل كان يرى أن هذا يؤدي لانتشارها واستمرار حضورها، إضافة إلى تحصيل مقابل مادي مقابل هذا الأداء.
وقد أسس الفنان محمد فوزي شركة (مصر فون) رغبة منه في توطين صناعة الأسطوانات في مصر، وإنتاج أسطوانات بسعر مناسب، ولكنه لم يجنِ ثمارها، فقد طالتها رياح التأميم، وهو ما ألقى عليه بمشاعر قاتلة. ولعله من المناسب أن نشير إلى أغنيته (يا مصطفى يا مصطفى)، وهي من أشهر أغاني (الفرانكو آراب)، وقد غناها العديد من المطربين حول العالم، إبان ظهورها، ومنهم برونو موري وبوب عزام، الذي اتهمه محمد فوزي بسرقة اللحن، لأنه غناها دون أن يرجع له، ووصل الأمر للقضاء قبل تسويته ودياً، وبالمثل أقام المطرب محمد الكحلاوي دعوى قضائية ضد محمد فوزي متهماً إياه بأن لحن الأغنية طبق الأصل من لحن أغنيته البدوية (من فضلك يا ساجى المطر). وقد كان لنجاح الأغنية وانتشارها وما حققته من ربح مادي دور مؤثر في إذكاء هذه النزاعات، إضافة إلى البحث عن الحقوق الأدبية وما يتعلق بالملكية الفكرية.
الكبار في مهب النزاع حول الحقوق
كانت أم كلثوم تشتري ما تقدمه من أعمال وفق تعاقدات بينها وبين المؤلفين والشعراء، تتضمن تنازلهم عن حقوقهم المادية، ولا تلزمها بدفع مبالغ إضافية في مراحل زمنية لاحقة، وقد نشأ عن ذلك خلافات ونزاعات امتدت إلى المحاكم، ولعل خلافها والملحن زكريا أحمد خير شاهد على ذلك.
ويذكر الدكتور سعد الآغا في موقعه على الإنترنت أنه تم رفع دعوى ضد السيدة فيروز تمنعها من تقديم ألحان الأخوين رحباني باعتبارها غير مالكة لها، وأنها ملكية تخص الأخوين رحباني، وهو أمر يدعو للعجب والدهشة! ولعل موشح (يا مالكاً قلبي) الذي غناه عبدالحليم حافظ من ألحان محمد الموجي، مثال آخر على هذه النزاعات حول حقوق الملكية الفكرية.
التراث الشعبي ملكية مستباحة
وفي سياق ما نقدمه عن الملكية الفكرية؛ لعله من الضرورى الإشارة إلى الفجوة الكبيرة بين وجود القوانين وبين تطبيقها، واتساع واختلاف دوائر تأويلها، وخصوصاً فيما يتعلق بالتراث الشعبي بعناصره الإبداعية المختلفة قولية وموسيقية وتشكيلية.. إلخ، حيث ينظر الكثيرون إلى هذا التراث باعتباره ملكية عامة مستباحة، وهو ما يضعه في مهب رياح الاستلاب والنهب والتزييف، ولعل مراجعة سريعة تكشف عن كم الأغنيات الشعبية التي يتم استخدامها دون مراعاة لخصوصيتها الثقافية ودون استفادة مجتمعاتها الأصلية مما يجنيه المؤدون النجوم والشركات المنتجة من أرباح هائلة، وما أسهل أن يسوق هؤلاء مبررات يرونها موضوعية وعادلة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، ولعل ما أثير حول أغنية (سألت ايه الولع) للفنان محمد منير مؤشر لما قد يثار حول استلهام واستخدام التراث الشعبي في جانبيه الأدبي والموسيقي، وما لعبه موقع (اليوتيوب) من دور، وما فعله من آليات من حذف وإعادة وفق مجريات الأحداث، وما نتج عن معالجات أطراف عدة منها جمعية المؤلفين والملحنين.    
وقد ينال الفنانون المؤلفون والملحنون والمؤدون حقوقهم وفق آليات السوق التي تدير مجتمع الفن بأنواعه المختلفة، وبما قد تقدمه كيانات أهلية مثل النقابات الفنية من المساندة والدفاع عن حقوق أعضائها؛ وهو ما ينتفي تماماً بالنسبة للفنان الشعبي، والمفترض أنه يعبر عن الهوية الثقافية للشعب، غير أنه يعاني من تجاهل وانتقاص من قدره ومن قيمة ما يقدمه من إبداع، رغم اهتمام منظمات ثقافية عالمية بهذا التراث الثقافي غير المادي والدعوة إلى جمعه وحفظه وإتاحته وصونه وتسجيله على قوائم التراث الثقافي غير المادي وفق اتفاقية 2003، وهي اتفاقية وقعت عليها معظم الدول العربية. ونشير ونشيد في الصدد بما سجلته بعض الدول العربية من عناصر ثقافية شعبية على قوائم التراث الإنساني، وقد تعاونت جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية في تقديم ملفات مشتركة، كان آخرها ملف عن آلة السمسمية صناعتها والفنون الموسيقية والغنائية الصادرة عنها، ولعل هذه الجهود تضع الإبداعات الموسيقية الشعبية العربية في موقعها الصحيح باعتبارها تمثل هوية الشعوب العربية الصادرة عنها والمعبرة عن خصوصيتها وفق سياقاتها الاجتماعية والثقافية.
الملكية الفكرية إشكالية دائمة الحضور
إن قضية الملكية الفكرية، وما تتضمنه من أبعاد كثيرة وعميقة وشائكة؛ جديرة بالتناول العلمي والإعلامي، بحيث تكون حاضرة في ذهن المجتمع بفئاته المختلفة، وهو ما من شأنه احترام حقوق الإنسان المبدع والحفاظ عليها، وتيسير السبل والمناخات التي تعينه على الإبداع المتميز والمؤثر إيجابياً في الذائقة الجمالية للمتلقي، وهي قضية حاضرة ومتطورة وفق ما تمليه التطورات التكنولوجية والمؤسسات ذات الاهتمام في كل دول العالم، حيث أصبح العالم قرية صغيرة، وأصبح الفن والثقافة أحد المؤثرات المهمة المعبرة عن قيمة وحضور الأمم في التفاعل والعطاء الإنساني، بل أصبحت الصناعات الثقافية، ومنها بالطبع الصناعات والمنتجات الموسيقية؛ مصدراً مهماً من مصادر الثروة، ورافداً من روافد الاقتصاد القومي.

ذو صلة