مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

إستراتيجية الملكية الفكرية في مصر .. لمحات تاريخية وتطلعات مستقبلية

تمتلك مصر -عبر كل العصور- تاريخاً زاخراً في مجال العلوم والثقافة والفنون والآداب، إذ يحوي تاريخ مصر القديم مخزوناً تراثيّاً متفرداً في تاريخ الإنسانيَّة، يُمثِّل خيرَ شاهد على أن الثقافة والفكر والإبداع حاضرة بقوة في روح الحضارة المصرية.
وممَّا لا شك فيه أن العلم والثقافة كانا دائماً مصدرَي بناء الحضارات الإنسانيَّة، في كل زمان ومكان، منذ أن تفتَّح وعي الإنسان وتطوَّر، من المستوى البدائي للحياة إلى أن أصبح لهما دورٌ في تكوين حضارته المتنامية وازدهارها، وبذلك أصبح العلم والثقافة العامل الرئيس والمحرك لتطوُّر الشعوب، ولهما تأثير على الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة.
تكمن أهميَّة العلم والثقافة في ارتباطهما بالمجتمع وأفراده، وما يرتبط بهما من جوانب اجتماعيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة وثقافيَّة. وإذا كانت غاية العلم هي تحسين حياة الأفراد، فلا بد أن يتمتعوا بوعي مبنيّ على العلم والثقافة، يُتيح لهم اتِّباع التفكير العلميّ منهاج حياة، وأن يكون العلم ومناهج البحث جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المجتمع، لكي يستطيع أن يُنتِج ويُبدِع، ويُسْهِم من خلال استخدام العلم والثقافة في تطوير المجتمع.
والحق، لم تكن حقوق المؤلف وليدة العصر الحديث، بل إن تاريخها يرجع إلى ما قبل التاريخ، إذ يُذكَر أن قدماء المصريين كان لهم السبق في مجال حق المؤلف، حيث أدرَكوا أهميَّة صون حقوق المبدعين لابْتِكاراتهم الذِّهنيَّة، وقد أَبدَوُا احتراماً كبيراً للإبداعات الذِّهنيَّة، وتقديراً عظيماً لمُبدعيها.
كما كانت القوانين المصرية في العصور القديمة ذات صبغة دينيَّة، فتشبَّعت بروح العدالة ومكارم الأخلاق، إذ يقول العلَّامة (Eugene Revillout) إنَّ القوانين المصرية القديمة كانت قريبة إلى المثل الأعلى للحق. وإذا كانت هذه هي روح التشريع العامَّة، فمن ثم يمكن القولُ إنَّ قدماء المصريين حتى عهد بوكخوريس يحترمون حقوق المؤلف، لأن العدل يأبى إلا أن تكون ثمرة مجهود الإنسان الفكري لنفسه، ولا يكون نهباً لكل مُعتدٍ أثيمٍ.
فإذا ما انتقلنا من هذا الإرث الحضاري الزاخر إلى العصر الحديث، نجد أن القضاء -الأهلي والمختلط- في مصر قد اجتهد ليفصل في منازعات الملكية الفكرية خلال القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين استناداً إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، وقد أثمر ذلك عن صدور عدة قوانين لحماية حقوق الملكية الصناعية وحقوق المؤلف، إلى أن صدَر قانون موحَّد لحماية جميع عناصر الملكية الفكريَّة، ألَا وهو القانون رقم (82) لسنة 2002 بشأن حماية حقوق الملكية الفكريَّة.
ولقد راعى المشرع المصري في قوانين حقوق الملكية الفكرية الحالية الاختلاف بين حقوق الملكية الصناعية من جانب، وحقوق الملكية الفنية والأدبية من جانب آخر، وذلك فيما يتعلق بمستويات الحماية، فمايز المشرع بين الجانبين، فمصر دولة مستوردة للتكنولوجيا، وهو الأمر الذي دعا المشرع إلى مراعاة البعد التنموي فيما يخص التناول التشريعي للملكية الصناعية، ووضع مرونات تمكن المجتمع من الاستفادة من نتاج التقدم الصناعي والتكنولوجي.
وعلى الجانب الآخر، فإن مصر دولة مُصدِّرة للثقافة، إذ تحظى بمكانة ثقافية ورصيد تمتلكه في المجال الأدبي والفني، ومِنْ ثَمَّ فقد سعى المشرع إلى رفع مستويات حماية حقوق المبدعين في المجالين الفني والأدبي، ووَضْع أكبر قَدْر مُمكِن من السياسات التشريعية التي تحفظ حقوق المبدعين المصريين، وفي الوقت نفسه وضع استثناءات وقيود على سبيل الحصر من شأنها تعزيز العلم والثقافة لدى أفراد المجتمع، على أن تُطبّق الاستثناءات الواردة على حقّ المؤلِّف في أضيق الحدود حفاظاً على حقوق المؤلفين.
ونظراً لكون الملكية الفكرية إحدى الركائز الأساسية للنمو الاقتصادي، فقد أولت الدولة المصرية اهتماماً بالغاً بها، وذلك إيماناً بدورها المهم في التحول نحو الاقتصاد المعرفي القائم على الابتكار والإبداع، لدفع الاقتصاد المصري نحو النمو وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهو ما تم التعبير عنه في (رؤية مصر 2030) على جميع المستويات: الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية.
وفي هذا الشأن، فقد أطلقت مصر إستراتيجيتها الوطنية للملكية الفكرية في سبتمبر عام 2022، وأوضحت الإستراتيجية في رسالتها عن رغبة الدولة في (بناء منظومة شاملة للملكية الفكرية ترتكز على بيئة تشريعية متكاملة، وبنية مؤسسية متطورة، بما يكفل استخدامها كأداة لتحفيز وحماية الإبداع والابتكار وتعزيز مساهمتها الفاعلة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وزيادة النمو الاقتصادي، وتحقيق التنمية الحضارية والرخاء الاجتماعي)، كما وضعت الإستراتيجية إطاراً زمنياً محدداً لمدة التنفيذ ما بين مرحلة انتقالية تمتد من 18 إلى 24 شهراً، ومرحلة تنفيذية تمتد حتى عام 2027.
ولقد قسمت الإستراتيجية أهدافها إلى ثلاثة أهداف رئيسة: الهدف الرئيس الأول (حوكمة البنية المؤسسية للملكية الفكرية)، والهدف الرئيس الثاني (تهيئة البيئة التشريعية للملكية الفكرية)، والهدف الرئيس الثالث (تفعيل المردود الاقتصادي للملكية الفكرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة). وقد تفرع عن هذه الأهداف الثلاثة الإستراتيجية عدة أهداف فرعية.
ولقد جاء الهدف الأول للإستراتيجية موجهاً نحو إنشاء الجهاز المصري للملكية الفكرية، وذلك إعمالاً للنص الدستوري رقم (69) من الدستور المصري بإنشاء جهاز مختص لرعاية حقوق الملكية الفكرية وحمايتها القانونية، حيث تناول الحديث عن حوكمة البنية المؤسسية للملكية الفكرية، وذلك من خلال إنشاء الجهاز المشار إليه أعلاه، ليكون هذا الجهاز هو الهيئة المركزية لإدارة شؤون الملكية الفكرية في مصر، ليحقق التناغم والتكامل بين مفردات الملكية الفكرية بعد أن كانت متفرقة بين عدة جهات ومؤسسات حكومية.
إن الذي نشهده من تطور سريع في نطاق الاقتصاد الابتكاري القائم على الإبداع الذهني على المستويين الوطني والدولي، أوجد تحدياً كبيراً أمام الهيئات والإدارات الوطنية يستلزم توفير خدمات سريعة - وليست متسرعة- تكفل الحماية لهذا الإبداع الفكري، لما يتسم به من سرعة عبر شتى المجالات.
ننتظر من الجهاز المصري للملكية الفكرية -عقب إنشائه- إيجاد حلول جذرية للإشكاليات الخاصة بفترات تسجيل عناصر الملكية الصناعية، وذلك لتشجيع المستثمرين الراغبين في توجيه استثماراتهم إلى مصر، وتسهيل إجراءات تسجيل عناصر الملكية الصناعية، وذلك من خلال إنشاء إدارات فحص فنية تسمى (VIP Registration Department)، على أن يضم فريق العمل بها كوادر متخصصة، وتسند إلى هذه الإدارات مهام الفحص والمراجعة للطلبات المقدمة، وذلك لتقصير المدى الزمني للتسجيل، بحيث يضيف ميزة تنافسية تسهم بشكل مباشر في جذب الاستثمارات التكنولوجية والصناعية.
كما نوجه إلى إنشاء إدارة متخصصة في تقييم عناصر الملكية الفكرية للهيئات والمؤسسات العامة والخاصة (IP Assessment Department)، وإصدار تقارير محاسبية واقتصادية استناداً إلى معايير التقييم المعتمدة دولياً، إذ تُعد هذه الخدمة من أهم الخدمات المتطلبة من قبل المستثمرين لتقييم الأصول غير الملموسة للشركات والمؤسسات القائمة على المنتجات والخدمات الابتكارية.
ولقد تناولت الإستراتيجية الوطنية في الهدف الإستراتيجي الثاني الحديث عن البيئة التشريعية لحقوق الملكية الفكرية في مصر التي بدأت من ثلاثينات القرن الماضي، وصولاً إلى قانون حماية حقوق الملكية الفكرية الحالي رقم 82 لسنة 2002 وتعديلاته، فضلاً عن بيان القوانين الأخرى المرتبطة به. كما أكدت على التزامات مصر الدولية لحقوق الملكية الفكرية، التي تتشكل من عدد من الاتفاقات والمعاهدات الدولية سواء في مجال الملكية الصناعية أم الأدبية والفنية.
كما أكدت الإستراتيجية على حاجة القوانين المرتبطة بقانون حماية حقوق الملكية الفكرية إلى المراجعة، وذلك نظراً لسرعة التطور والتغير في المجالات المرتبطة بالملكية الفكرية، سواء في المجال الصناعي والتجاري والتكنولوجي، أم في المجال الأدبي والفني والعلمي. ولقد قسمت الإستراتيجية خطة العمل إلى مرحلتين: الأولى التدخل على المدى القصير -وبشكلٍ عاجل- لحل المشكلات الجوهرية المتعلقة بمنظومة الملكية الفكرية، والثانية التدخل على المدى المتوسط للعمل على المراجعة الشاملة للتشريعات المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية.
كما أوضحت الإستراتيجية أن الدولة المصرية بصدد إتمام إجراءات التصديق على معاهدة مراكش لتسيير النفاذ إلى المصنفات المنشورة لإفادة الأشخاص المكفوفين أو معاقي البصر أو ذوي إعاقات أخرى في قراءة المطبوعات، والتي تقضي بتسهيل نفاذ الأشخاص المستفيدين للمصنَّفات بأنساق مُيسّرة النفاذ، بما يحفظ حقهم في التزود من العلوم والفنون والآداب دون تمييز أو إقصاء، وبما يضمَن زيادةَ فرص الاندماج المجتمعيّ والمشارَكة الثقافيَّة لهم تحقيقاً للتوازن المرجو بين المصالح الماليَّة للمؤلفين، والمصلحة العامَّة في نشر العلم والثقافة.
ونظراً لكون الملكية الفكرية تُعد جوهر الاقتصاد المعرفي، فقد تناول الهدف الإستراتيجي الثالث (تفعيل المردود الاقتصادي للملكية الفكرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة)، ولقد جاء هذا الهدف متسقاً مع توجهات الدولة المصرية التي تسعى إلى تحقيق النمو الاقتصادي من خلال خطة التنمية المستدامة 2030، عبر تحويل الإبداعات والابتكارات إلى أصولٍ تحقق عوائد اقتصادية.
وفي هذا الصدد، نشير إلى أن جُل دول العالم قد آمنت بأن الملكية الفكرية تساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن الاقتصاد المعرفي القائم على عناصر الملكية الفكرية سيصبح السبب الرئيس في التقدم الاقتصادي، إذ إن الملكية الفكرية تُشجع المستثمرين -الوطنيين والأجانب- على ضخ الاستثمارات في المجال الصناعي والتجاري من خلال نقل التكنولوجيا، وغيرها من الاستثمارات الأخرى التي تساهم -بشكلٍ مباشر أو غير مباشر- في نمو الاقتصاد الوطني.
وجديرٌ بالذكر أن الملكية الأدبية والفنية -أيضاً- تساهم في تحقيق النمو الاقتصادي وتقدمه، إذ يشهد الاقتصاد العالمي اهتماماً منقطع النظير بالقطاعات الابتكارية والإبداعية -سواء أكان ذلك في المجال الأدبي أم الفني أم العلمي- وذلك نظراً لدورها في التطور وتحقيق التنمية الاقتصادية، وكذلك في تعزيز الهوية الثقافية.
وما من شك أن الدولة المصرية تمتلك رصيداً عظيماً في مجال التراث الثقافي غير المادي (التراث الحي)، وكذلك في مجال الإبداعات الأدبية والفنية التي ساهمت في تشكيل مفردات الهوية الوطنية والقومية، الأمر الذي جعل هذه الإبداعات تُشكل رأسمالاً فكرياً، حيث اتجه كثير من المستثمرين إلى ضخ استثماراتهم في الصناعات الإبداعية، وهي صناعات ترتبط بحقوق الملكية الفكرية ارتباطاً وثيقاً.
كل ذلك يخلص بنا إلى إدراك أهمية إعداد بنية تحتية حديثة ومُتطوَّرة للمعلومات، ونظام مؤسسي يصوغ سياسات اقتصادية سليمة، ويضع حوافز للمبدعين والمبتكرين، وحث الشركات والمؤسسات الوطنية والدولية على الاستثمار في أصول الملكية الفكرية من خلال الصناعات الإبداعية، مما سيتيح للدولة تحقيق تطلعاتها الاقتصادية، وتعزيز التقدم الاجتماعي والتنمية الثقافية.
كل ذلك، يستلزم منا تفعيل الإستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية وأهدافها على جميع الأصعدة، وبذل الجهود نحو إصدار قرار إنشاء الجهاز المصري للملكية الفكرية في القريب العاجل، وذلك أسوة بنماذج الدول الأخرى التي بدأت بالفعل في تنفيذ إستراتيجياتها الوطنية للملكية الفكرية، واستطاعت تحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لجميع أفراد المجتمع من خلال الاستغلال الأمثل لعناصر الملكية الفكرية.

ذو صلة