مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

أهمية الملكية الفكرية وفوائدها

تعود جذور الملكية الفكرية إلى نهايات القرن الخامس عشر، إذ يؤرخ لقانون براءة الاختراع البندقي 1474م. وفي أواخر القرن السادس عشر في عهد الملكة أليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، قدمت ما يُعرف بالامتيازات الاحتكارية، التي منحتها للرحالة وغيرهم. على أن هذه الامتيازات مكرمة منحتها الملكة من غير مدة زمنية محددة، لها أن تنزعها متى تشاء، إلى أن تبلورت الفكرة في الربع الأول من القرن السابع عشر ووضع قانون الاحتكارات عام 1624م. ليتشكل بعد ذلك الأساس أو المنطلق لمفهوم الملكية الفكرية، إلى أن تمظهرت على نحو واضح وجلي في اتفاقية برن للمصنفات الأدبية والفنية المؤرخة في 9 أيلول/ سبتمبر1886م. وجرت، بعد ذلك، تعديلات عليها باتفاقيات كان آخرها في باريس عام 1979م. والغاية من هذه الاتفاقية وتعديلاتها على مدى قرن من الزمن تقريباً، توفير الحماية الفعالة لحقوق المؤلفين على مصنفاتهم الأدبية والفنية والعلمية بأنواعها المختلفة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ما أهمية الملكية الفكرية؟ وما الفوائد المَجنِيَّة منها؟
في الواقع، تكتسب الملكية الفكرية أهمية كبرى في المحافظة على التميز والفرادة، في الأفكار الإبداعية وتمنع سلب مزاياها الخاصة التي تجعلها قادرة على البقاء والاستمرار والنماء، ما يحميها من المنافسة أمام المنتجات المقلدة التي تشكل خطراً حقيقياً عليها في الأسواق المحلية والعالمية، كما أنها تستطيع أن تُقصِيَ الآخرين عن مساحة تواجدها. كل ذلك، ضمن إطار القانون كحق مكتسب لا يمكن الاستيلاء عليه، أو الاستفادة منه، ما ينعكس سلباً على أصحاب حقوق الأفكار الإبداعية، ويقلل من الدوافع إلى الاختراع والاكتشاف والابتكار.
مما لا شك فيه، أن ضمان الملكية الفكرية وحمايتها يؤديان إلى نهضة على المستويات التي تشملها الأفكار الإبداعية، وترتقي لا بالأفراد وأصحاب الابتكار والاختراع والاكتشاف والتأليف وحسب، إنما بالمجتمع على نحو عام، فهذا المحمي بسلطة القانون المحلي والدولي يعطيه الريادة وفتح الآفاق على التجديد والتطوير على الدوام ويمنح المنتجات الفكرية الإبداعية، على اختلاف أنواعها، أماناً في الأسواق بكل مسمياتها. وهذا بالضرورة يعطيها القدرة على الدخول إلى الأسواق المكتظة بالمنتجات، بما تحملُ من ميزات فريدة مختصة بها، وتجد لنفسها حيزاً واسعاً في الإقبال عليها دون سواها.
ولا يخفى على أحد، أن إقرار الاتفاقيات العالمية للملكية الفكرية، وإنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) WIPO، ومقرها جنيف، الهدف منها بُعد اقتصادي بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى البعد المعنوي لتحفيز الابتكار والإبداع على الدوام. فتأثير الملكية الفكرية واضح على الاقتصاد العالمي، ونجد ذلك في المنتجات التي لا مجال لذكرها الآن، في الأسواق العالمية والمحلية والإيرادات التي تجنيها الشركات والدول منها، على مدى عشرات السنين. فلنأخذ مثالاً في أسواقنا العربية، فأي فرد في الدول العربية يمكنه بسهولة ويُسر أن يُلاحظ ذلك، وإذا نظر إلى المنتجات في السوق وما يشتريه، يجدُها بمعظمها منتجات أجنبية تعود إيراداتها الضخمة إلى أصحابها الأساسيين المبتكرين لها، وتشكل بالتالي اقتصادات الدول الصناعية الكبرى. الجدير بالذكر أن أصل هذه المنتجات، بأنواعها جميعها، فكرة نشأت وتطورت واستثمرت بشكل صحيح وسليم، ثم صُنعت وروجت وأُدخلت الأسواق من غير منافسة بسبب الحماية القانونية لها. فأين نحن كمجتمع عربي، أو بالأحرى كمفكرين ومبدعين من كل هذا التطور المعرفي والابتكار والاكتشاف؟
لعلنا في دراسات أخرى نُضيء على هذا الأمر الحيوي والضروري لنواكب الحضارة الإنسانية، ونسير في ركبها منتجين، مخترعين ومبتكرين لا مستهلكين فقط.
إن دور الملكية الفكرية في حماية الإبداع تبني اقتصاداً قوياً متيناً، وبخاصة في ظل التطور التكنولوجي المتسارع اليوم، حيث نجد أن الاقتصاد المعرفي وتصدير المعرفة دعامتان قويتان لأي اقتصاد متين منافس عالمياً، إذ لم تعد الموارد الطبيعة التي وهبها الله تعالى للبشر، وحدها المعيار الأول للاقتصاد القوي، فكم من دول تمتلك ثروات طبيعية لكنها ذات اقتصاد ضعيف إن لم نقل منهاراً، وكم من دول لا تمتلك أي ثروات طبيعة وهي ذات اقتصادات عالمية رائدة ومنافسة في آن معاً، لأنها اقتصادات مبنية على المعرفة. فالدول الاقتصادية الكبرى اليوم، تعمل على تصدير العلوم والتقنيات والأبحاث العلمية كما تصدر الموارد الطبيعة تماماً، وهي تحقق إيرادات أعلى بكثير من إيرادات الموارد الطبيعية والثروات، إذ تُشير دراسات إلى أن نسبة الأرباح التي تحققها الشركات الأمريكية من الأسواق الخارجية تُشكل ما نسبته 65%، من الأرباح الإجمالية لها بسبب الملكية الفكرية.
بالطبع، هذا البعد الاقتصادي المهم الذي توفره الملكية الفكرية ينعكس إيجاباً على الحياة في المجتمع بشكل عام من خلال توفير فرص عمل، ورفع المستوى المعيشي وتعزيز التعليم، ما يولد مجتمعاً متوازناً وبيئة سليمة فيها كل مقومات الحياة الطبيعية، بدءاً من الأسرة إلى المدرسة، إلى المجتمع، تمنح فيها الفرد المبدع القدرة والإمكانية على إغناء مجتمعه بما يبدعه أولاً، والبشرية ثانياً والحضارة على نحو أعم. هذه الأمور توفر الاستقرار المجتمعي والعيش فيه بسلام بعيداً من التوترات والنزاعات وغيرها.
وتجدر الإشارة هنا، أن البيئة التي لا تحمي الملكية الفكرية، يتعذر عليها الإبداع في شتى المجالات، فالكاتب والأديب والشاعر الفنان والعالم الذين لا تحمى حقوقهم فيما أبدعوا، لن يستمروا، وسيتقهقرون إلى الوراء، لأن ما من أحد يستثمر في بيئة، ولا شركات تستثمر في مجال البحث العلمي والتطوير حيث حقوقها الفكرية مهدورة، ولا تُضمَن الإنتاجات من السرقة والتزوير والتقليد.
أختم لأقول: تكاد تجمع القوانين المحلية في الدول التي سنت قانون الملكية الفكرية والاتفاقيات الدولية على العناصر المحمية بموجبها أنها مجمل إنتاجات العقل البشري الإبداعية. وما من مجتمع على وجه الأرض إلا وفيه أدباء وفنانون وعلماء ومبدعون، فلماذا لا تُمنح الفرصة لكل في موطنه أن يستثمر ما أبدع، وأن تُنشأَ شركات ترعى هذا الإبداع، أو تعمل الحكومات على رعاية هذا الإبداع وتطويره بما يخدم الاقتصاد والمجتمع معاً من أجل رفاه الإنسان؟

ذو صلة