مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

مفهوم الملكية الفكرية بين الماضي والحاضر

الحقوق الفكرية، وليدة تطور الإنسان في شتى مناحي الحياة وتراكم خبرات المجتمعات والشعوب والتقدم المضطرد الذي وصلت إليه الحضارات في جميع ميادين العلوم المتعددة في أرجاء المعمورة على اعتبار أن الحضارات تتدخل وتتفاعل وتتواصل على مر السنين، فالحضارات ميراث مشترك بين الأمم، ومن الجور نسبة الحضارة إلى أمة من الأمم بعينها، ويدخل في نطاق الحقوق الفكرية جميع صور الإبداع الفكري الأصيل في المجالات العلمية والفنية والأدبية الناتجة من وحي العقل التي يمكن التعبير عنها في صورة خلق مادي أصيل (إبداع)، وهذا يعني أن حقل الحقوق الفكرية واسع جداً ويشمل براءات الاختراع والنماذج والرسوم الصناعية والعلامات والأسماء والعناوين التجارية والتأليف في صوره المتعددة.
لذلك فإن محل الحقوق الفكرية هو فكرة ما نتج أو ينتج عنها ثمرة ما، حوت على قدر معين من الجدة والحداثة والابتكار سواء جاء أكلها في صورة اختراع أو اكتشاف أو نموذج أو رسم أو علامة أو اسم أو كتاب أو شعر أو لحن أو أداء أو ما أشبه، وتعطي الفكرة لصاحبها حقاً مزدوجاً، فهي من جهة تعطيه حقاً معنوياً يتمثل في الاعتراف له في الأبوة على تلك الفكرة، ومن جهة أخرى تعطيه حقاً مالياً يتمثل في الاعتراف له في استثمار تلك الفكرة استثماراً مشروعاً.
ويمكن القول إن للفقه الإسلامي كلمة واضحة في الحقوق الفكرية؛ إذ ينادي بردها إلى أصحابها إنصافاً وعدلاً لهم ولتشجيعهم على مواصلة البحث والابتكار ومن ثم تحقيقاً لمصلحة مشروعة، وبالتالي عدم حرمان الأمة بل والمجتمع الإنساني من مصلحة عامة
حقيقية مؤكدة ناتجة عن الابتكار في شتى مجالات الحياة، فلا ضير في الفقه الإسلامي من إقرار تشريع خاص للحقوق الفكرية ينظم أحكامها ويحمي حقوق أصحابها.
وهكذا يتضح أن للحقوق الفكرية ارتباطاً وثيقاً مع الاختراعات والتقنيات على وجه الخصوص ومع العلوم والآداب والفنون على وجه العموم، وهذا يعني أن رحم الحقوق الفكرية هو عقل الإنسان الذي يقذف بها إلى الوجود بصورة أفكار، فإذا ما تمت رعايتها
بصورة معينة عندئذ تنشئ لصاحبها حقوقاً مهمة في ظل الأنظمة والقوانين الدولية ذات العلاقة.
إن مصطلح الحقوق الفكرية ينضوي تحت مظلته كل ما ينتج عن العقل من أعمال تتضمن صفة الجدة والابتكار والحداثة، مثل: الحقوق الصناعية؛ ومثل هذا النوع من الحقوق تبرز: براءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية. وكذلك الحقوق التجارية ومثل هذا النوع من الحقوق تبرز العلامات والأسماء والعناوين التجارية. وكذلك حقوق المؤلف والحقوق المجاورة له، ومثل هذا النوع من الحقوق تبرز: حقوق المصنفات في العلوم أو الآداب أو الفنون بالإضافة إلى الحقوق المجاورة لها.
لذلك نجد أن هناك دولاً كثيرة تعد من الدول الفقيرة كونها لا تملك من الحقوق الفكرية إلا الشيء اليسير بالرغم من امتلاكها ثروات طبيعية كثيرة. وعليه فإن التفاوت بين الدول في امتلاك الحقوق الفكرية قد أدى إلى تقسيم دول العالم إلى مجموعات متفاوتة في مضمار التقدم وهي الدول المتقدمة والدول التي تحت التطور والدول النامية، فاليابان مثلاً لا تملك من الثروات الطبيعية إلا الشيء اليسير لكنها قد تبوأت مقعدها في الصدارة بين دول العالم بفضل امتلاكها الكثير من الحقوق الفكرية لكونها تضيف كل يوم شيئاً جديداً إلى رصيدها من الإنتاج الفكري والابتكاري بفضل جهود أبنائها حتى أصبحت مثلاً يحتذى به في قوة اقتصادها وتقدمها.
ولا يخفى أن الصراع العالمي في أيامنا هذه هو سباق نحو التقدم العلمي، وإن أخذ هذا الصراع أشكالاً سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، فالجوهر هو صراع علمي، ولقد أدى انتشار العلم والمعرفة والخبرة لدى الإنسان إلى خلق القدرة على الابتكار والإبداع.
ولقد لعبت الحقوق الفكرية دوراً مهماً في منح الحرية للإنسان عموماً والى المرأة خصوصاً، ولا شطط في القول إن امتلاك الحقوق الفكرية واستغلالها واحتكارها من قبل الدول المتقدمة كان السبب الرئيس في تمتع تلك الدول بالنفوذ السياسي والمكانة الرفيعة بين دول العالم.
وعن أهمية الحقوق الفكرية على المستوى القانوني فإنه دون مبالغة في القول بأن قوانين الحقوق الفكرية تعتبر أشد الوسائل أهمية في هذا الصدد باعتبارها أقوى دعائم التطور الاقتصادي والثقافي والعلمي، بالإضافة إلى حماية أصحاب الحقوق من المبدعين، ونجد أن المشرع الدولي وضع لحمايتها اتفاقيات ومعاهدات، مثل: اتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعية والتجارية لسنة 1883م، واتفاقية أتربس لسنة 1994م، واتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية عام 1886م، واتفاقية روما لحماية فناني الأداء ومنتجي التسجيلات الصوتية عام 1996م.
ومن قوانين الدول العربية المتقدمة في هذا المجال قانون تونس النموذجي الذي وضعته منظمة اليونسكو والمنظمة العالمية للملكية عام 1976م لتستعين به البلاد النامية منها عند وضعها لتشريعاتها لهذا الشأن. ومن المؤسسات العربية في مجال الملكية الفكرية (المجمع العربي للملكية الفكرية) الذي تأسس في ميونخ بألمانيا عام 1987م.
ان الحديث عن النهوض بالإبداع العربي يتطلب التعرض لمسألة هجرة العقول التي تشكل معضلة حقيقية أمام النهوض العربي في مختلف مناحي الحياة حيث يؤدي إلى إفراغ هذه البلدان من خبراتها وكفاءاتها، فتعود هذه البلدان خطوة إلى الخلف بدل التقدم إلى الأمام.

ذو صلة