مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

انتهاك حقوق الملكية الفكرية.. حكايتان بنهايتين مختلفتين

لستُ من المبهورين بالصحافة الغربية، فقد أثبتت التجارب أن لها أجنداتها، بل فبركاتها أحياناً، كما أنني في الآن ذاته لست من جالدي الذات فيما يخص صحافتنا العربية، إذْ أؤمن أن بها نماذج تستحق الاحترام والإشادة في سعيها الدؤوب لقول الحقيقة، وتأدية الرسالة السامية للصحافة. لكننا حين نقارن بين هاتين الصحافتين من ناحية التصرف إزاء انتهاك حقوق الملكية الفكرية؛ فإن الفرق يبدو شاسعاً، بين من يواجه نفسه بحقيقة الخطأ الذي وقع فيه في الصحافة الغربية، ويعمل على تصحيحه، ومن يستمر في الإنكار في صحافة بلاد العرب، وكأن شيئاً لم يكن، متكئاً على غياب الرقابة وازدياد الدخلاء على المهنة. ولكي لا يكون هذا الحديث اعتباطيّاً سأسرد حكايتَيْن تتعلقان بحادثتَيْ انتهاك ملكية فكرية في الصحافتين العربية والغربية، لنقارن كيف تعامل كل طرف منهما مع هذه الحادثة.
الحكاية الأولى تتوزع أحداثها بين بوتسماوث ومسقط والقاهرة، وتتعلق بعودة السلطان جمشيد بن عبدالله آل سعيد آخر سلاطين زنجبار إلى عُمان، مسقط رؤوس أجداده، بعد أن قضى في منفاه البريطاني ستة وخمسين عاماً. كانت عودته في 15 سبتمبر 2020م، قبل يوم واحد فقط من احتفاله بعيد ميلاده الحادي والتسعين، في أول دخول له إلى عُمان منذ الإطاحة بحكمه لزنجبار عام 1964م. قبل عدة أيام من وصول السلطان إلى مسقط (وتحديداً أيام 10و11 و12 سبتمبر 2020م) نشر الباحث العُماني ناصر بن عبدالله الريامي ستة منشورات على صفحته في إنستجرام وضع فيها مقتطفات من كتابه (زنجبار: شخصيات وأحداث) تسرد -مع الصور- الأيام الأخيرة للسلطان في زنجبار. وأفتح قوساً هنا لأوضّح أن كتاب (زنجبار شخصيات وأحداث) صدرتْ طبعته الأولى عام 2009م، ويُعَدُّ أحد أهم المراجع في التأريخ لما حدث في زنجبار عام 1964م، وقد امتاز دون غيره من الكتب التي تناولت هذا الحدث بأنه انفرد بحوارات مع كثير من شهود العيان، ومن ضمنها حوار حصري مع السلطان جمشيد أجراه معه الريامي في بيته في بوتسماوث عام 2006م، وقد ضمّن شيئاً من كلام السلطان في هذا الحوار في منشوراته الإنستجرامية المشار إليها. إلى هنا والأمور على ما يرام؛ غير أنه بعد ثمانية أيام من نشر الريامي لمنشوراته في إنستجرام، صدر في 20 سبتمبر 2020م العدد رقم 2291 من مجلة أكتوبر المصرية، وتضمن من ضمن موادّه تقريراً بعنوان (عودة آخر حكام زنزبار/ زنجبار إلى مسقط رأس أجداده)، يحمل توقيع الصحفي فوزي مخيمر، مسبوقاً بعبارة (يرصد الرحلة). بيد أنه بقراءة سريعة لهذا التقرير لن نحتاج إلى كبير عناء لاكتشاف أنه تقرير منقول معظمه بشكل حرْفي من كتاب (زنجبار شخصيات وأحداث) للريامي. احتل التقرير الصفحتين 28 و29 من العدد، وكان معظمه منتحَلاً من منشورات ناصر الريامي الإنستجرامية، التي هي أصلاً إعادة نشر لما ورد في كتابه، باستثناء المقدمة القصيرة والخاتمة فقط، وقد وقع الصحفيّ المنتحِل في أخطاء فادحة سهّلت اكتشاف انتحاله، فعلى سبيل المثال يكتب ناصر الريامي في أحد هذه المنشورات: (يشير الشيخ سالم بن حمود الخروصي في اللقاء الذي أجريتُه معه) وقد نقلها مخيمر كما هي، ولا أدري هل هي غفلة منه، أم أراد بالفعل أن يوحِي أنه هو من أجرى اللقاء. مع العلم أن ناصر الريامي قد وثق هذا اللقاء مع الخروصي في الصفحة 249 من كتابه، وأوضح أنه أجراه معه عام 2002م. كما أنه - أي الصحفي المنتحِل- ابتدأ إحدى فقرات تقريره بهذه العبارة: (تنفيذاً لذلك، وصلت القوة المذكورة القصر) دون أن ينتبه أن وصف (المذكورة) يستدعي أن تكون قد ذكرتَها سابقاً وهذا ما لم يحصل في تقريره، وإنما هو النقل الحرفي من منشور ناصر الريامي الذي كان مبنياً على منشور سابق. وحريٌّ بالذكر، أن هذا الأخير حتى وهو ينقل من كتابه فقد حرص على توثيق ذلك في نهاية كل منشور، حيث كان يحيلنا إلى الطبعة الثالثة من كتابه الصادر عام 2016م، عن بيت الغشام للنشر والترجمة في مسقط، موضحاً عنوان الفصل الذي نقل منه.
بعد أن نشرتُ التفاصيل أعلاه على صفحتي في فيسبوك، واتهمتُ مجلة أكتوبر بالانتحال، دخل فوزي مخيمر إلى الصفحة وعلق بالقول -دون أن يعتذر- إن ذلك حدث سهواً لا عمداً، وإنه سيعود للأصل وسيذكر ناصر الريامي في العدد القادم، دون أن يوضح في أي سياق سيذكره، هل سيعيد نشر الموضوع كاملاً مثلاً مع ذكر مصدره هذه المرة؟ أم سيكتفي بالاعتذار ذاكراً اسم الريامي كمصدر؟ وعلى أية حال، فقد جاء العدد القادم والعدد الذي يليه، ومضت سنتان ونصف على الحادثة حتى لحظة كتابة هذه السطور دون أن يفي الصحفيّ المنتحِل بما وعد به. واللافت أن مسؤولي مجلة أكتوبر أنفسهم اختاروا الصمت المطبق، ولم يعلقوا على الموضوع البتة، وكأن شيئاً لم يحدث، أو كأن الأمر لا يعنيهم البتة.
لوضع موقف مجلة أكتوبر في سياقه ننتقل إلى الحكاية الثانية، وبطلتُها واحدة من أهم صحف العالم الغربي، ألا وهي صحيفة (نيويورك تايمز). وتقول الحكاية إنه في أحد أيام ربيع عام 2003م، وبينما كانت ماكارينا هيرنانديز مراسلة صحيفة سان أنطونيو نيوز أكسبريس تتصفّح نيويورك تايمز، لفت نظرها مقال للصحفي جيسون بلير، وكان واحداً من ألمع الصحفيين في نيويورك تايمز في ذلك الوقت. كان المقال عن خوانيتا أنجيانو والدة الجندي الأمريكي الذي قُتِل في العراق، وسبق لهيرنانديز أن أجرت معها حواراً أبدت فيه حزنها الشديد على ابنها وغضبها على إدارة جورج بوش الابن على زجّه بأبناء الأمريكيين في حرب العراق التي لا تهمّ المواطن الأمريكي في شيء. ظنت الصحفية لأول وهلة أنه تسنى لبلير أن يجري مقابلة مماثلة مع الأم المكلومة، لكن وهي تقرأ الموضوع تكشّف لها شيئاً فشيئاً أنه ليس سوى سرقة حرفية لحوارها. لم تصمت هيرنانديز وفضحت هذه السرقة، فما كان من نيويورك تايمز إلا أن أقالت جيسون بلير في الأول من مايو 2003م. فهل اكتفت بذلك؟ أبداً، لقد أجرت تحقيقاً شاملاً ليس فقط حول المقال المسروق، وإنما حول كل مواد بلير الصحفية منذ أن بدأ يعمل معها قبل عدة أشهر، وخرجت علينا في 11 مايو 2003م بتحقيق صحفي عنوانه: (تصحيح السجلّ: مراسل نيويورك تايمز الذي استقال يترك أثراً طويلاً من الخداع)، كشفت فيه - بيدها لا بيد عمرو- أن هذا الصحفي سبق له أن ارتكب انتهاكات أخلاقية في 36 مقالاً من بين 73 مقالاً منذ بدئه تغطية مهام صحفية على الصعيد المحلي الأمريكي في أكتوبر 2002م. وقالت في التحقيق -كما وثق ذلك كتاب (أخلاقيات الصحافة) لأستاذ الصحافة الأمريكي رون إف سميث- إنه (قدم برقيات زُعِم أنها مرسلة من ماريلاند وتكساس وولايات أخرى -في حين كان في نيويورك أغلب الأحيان- وتعليقات مصطنعة ومشاهد مفتعلة ومواد منقولة من صحف ووكالات أنباء أخرى). هذه الانتهاكات الكثيرة جعلت الصحيفة توسّع دائرة التحقيق لتكتشف أن هذا كان يحدث بسبب غياب التواصل السليم بين مسؤولي الصحيفة والمحررين، فكان أن أقالت مدير التحرير جيرالد بويد والرئيس التنفيذي هويل رينز في مطلع يونيو 2003م.
نلاحظ هنا أن (نيويورك تايمز) عالجت الموضوع من خلال عدة قرارات جريئة هدفها إعادة قاطرة مصداقيتها إلى السكة الصحيحة، بدءاً من إقالة الصحفي السارق، ثم التحقيق في انتهاكاته الأخرى، ونشر نتائج هذا التحقيق على الملأ، وإجراء تقييم لسبب إقدام الصحفي على هذا العدد الكبير من الانتهاكات، وإقالة المتسببين في ذلك. في حين تجاهلت مجلة أكتوبر الموضوع تماماً ولسان حالها: (هذا أمر طبيعي في صحافتنا العربية فلا تكبّروا الموضوع لأنه لا يستحق الاهتمام).
إن من أهم الأخلاق المهنية التي تُدرّسها كليات الإعلام لطلبتها، والمؤسسات الصحفية للمنتمين إليها؛ الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها فوراً، وفضح الممارسات غير الأخلاقية للصحفيين ومؤسسات الإعلام، والتزام المعايير الصارمة التي يلتزم بها كل صحفي مهني، وما لَمْ يتحقق ذلك سيفقد الصحفي مصداقيته، والمؤسسة احترامها، وستشيّع المهنية إلى مثواها الأخير.

ذو صلة