مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

مسرح الطفل.. تربية على القيم

«أعتقد أن مسرح الطفل يعتبر أعظم اختراع في القرن العشرين»، هذه عبارة ذائعة لمارك توين كثيراً ما نصادفها في الكتابات التي تتخذ من مسرح الطفل موضوعاً لها، وهي عبارة، على وجازتها، تحمل مضموناً في منتهى القوة، حيث إنها تؤكد على أن مسرح الطفل إنجاز حضاري يكتسي أهمية بالغة، نظراً لما يضطلع به من وظائف مختلفة لكنها متكاملة في تكوين شخصية الطفل تكويناً سوياً، متيناً، يسهم في استمرار توازن المجتمع وتماسكه، ومن أهم هذه الوظائف وظيفة التربية على القيم.
فما الذي نعنيه هنا بمسرح الطفل؟ وما المقصود بالتربية على القيم؟ وكيف يضطلع المسرح بهذه الوظيفة؟ وما هي الشروط والضوابط المساعدة على نجاحه في القيام بها؟ هنا أسئلة محورية سنحاول، جهد الإمكان، الإجابة عنها بما يلزم من الدقة والتركيز.

مسرح الطفل
نقصد بمسرح الطفل تحديداً تلك الفرجة المسرحية المركبة الهادفة المقدمة بالأساس إلى جمهور من الأطفال من أجل التثقيف، والتربية، والترفيه. ولإغناء محتوى هذا التعريف الذي قصدنا إلى أن يكون في غاية الاختصار، لا بأس من إضافة هذه المحددات التكميلية:
- تنطلق هذه الفرجة من اعتبارات سيكولوجية وتربوية وفنية.
- تستجيب لحاجيات الأطفال، وتلائم خصائصهم، وتناسب مستويات نموهم.
- تستهدف في الأصل متلقين من الأطفال الذين قد يغيب بينهم التجانس في معظم الأحوال، إذ تجدهم مختلفين في أطوار نموهم، وقدراتهم، وميولهم، وبيئاتهم، غير أن استهداف الأطفال لا يمنع من أن يحضر إلى جانبهم الراشدون من الأمهات والآباء، والمربين، والمعنيين بشؤون الطفولة عموماً.
- تسند الأدوار فيها لممثلين صغاراً كانوا أو كباراً، أو لخليط من هؤلاء وأولئك، وقد تشرك أيضاً الدمى والعرائس، أما إعداد بقية عناصر العرض المسرحي ففي الغالب ما يتولى الإشراف على إعدادها وتشغيلها كبار متمكنون مقتدرون، فلا يعقل مثلاً أن نسند لأطفال مهمة تثبيت كشافات التنوير في الخشبة، فتلك مهمة من صميم عمل راشد تقني متخصص في الإضاءة المسرحية.
- تعرض في المسارح المتاحة في المدينة إن توافرت، وإلا في قاعات للعروض، أو فضاءات تتم تهيئتها مسرحياً؛ لتفي بالغرض.
- لا تقدم في سواد الليل، وإنما في بياض النهار، إبان انعقاد المهرجانات والملتقيات، أو خلال جولات الفرق المسرحية، أو بمناسبة من المناسبات أو بدونها من قبل فرق محلية.
- تستغرق وقتاً محدوداً، حيث لا تتجاوز مدة العرض، في الغالب الأعم، الساعة من الزمن، مراعاة لقدرة الطفل المحدودة على التركيز والانتباه.

تربية الأطفال على القيم
تربية الأطفال على القيم رسالة تربوية سامية، تتمثل في تشريب النشء القيم، أي مجمل المعتقدات والمبادئ والمعايير المرجعية التي ينتظر من الطفل أن يتمثلها نظرياً، لينتقل بها بعد ذلك إلى الممارسة، وذلك بترجمتها إلى مواقف واتجاهات وسلوكات عملية في حياته اليومية، وعلاقته بخالقه، وذاته، والناس من حوله في محيطه، بل والإنسانية جمعاء، لأنه لا طائل من نظرية لا يتبعها تطبيق عملي.
ومن المعلوم أن الطفل يتلقى أول ما يتلقى القيم في الأسرة بما أنها الإطار المرجعي الأول للأخلاق، ثم في المدرسة التي يقضي فيها معظم أوقاته للتعلم والتحصيل، وهذا لا يعني أن مسؤولية التربية على القيم ملقاة على عاتق الأسرة والمدرسة فحسب، ذلك أن التربية على القيم هي مسؤولية مشتركة، تتقاسمها إلى جانب الأسرة والمدرسة كثير من المؤسسات والوسائط المهتمة بشؤون التربية والتكوين والتثقيف والتأطير، ومنها الوسائط الفنية والأدبية، وضمنها يندرج طبعاً مسرح الطفل الذي يعد بحق معلماً فعالاً لحميد الأخلاق، ومرشداً مرناً إلى السلوك القويم.
وتجب الإشارة في هذا السياق إلى أن مسرح الطفل، وعلى غرار بقية المؤسسات، يستقي هذه القيم من معين مرجعيات مختلفة: دينية، وثقافية، وسياسية، وحقوقية، واجتماعية، وينهلها من روافد تتوزع بين الخصوصي والمشترك، حيث تتعدد دوائر روافدها، فمنها: المحلي، والإقليمي، والوطني، والكوني.
طريقة اشتغال مسرح الطفل على وظيفة التربية على القيم
يتميز مسرح الطفل عن باقي الوسائط بطريقته الفريدة في تمرير القيم النبيلة، فهو يضمنها في ثنايا حكاية ممسرحة تتضافر لبنائها وسائل تعبيرية متعددة كالتمثيل بأداءاته اللغوية وغير اللغوية، والملابس، والإضاءة، والمؤثرات الصوتية، والديكور، والملحقات، والأقنعة، وما إلى ذلك من العناصر المشهدية، فيتابع الطفل ما يصل إلى سمعه، وما يجري أمام ناظريه مباشرة، متنقلاً في الزمان، والمكان، متفاعلاً مع الشخصيات وما يصدر عنها من أقوال وأفعال، وما يحدث بينه من صراعات، متابعاً سيرورة الوقائع من البداية المستقرة المتوازنة، مروراً بالتحولات الطارئة، وصولاً إلى النهاية.
وخلال تلقيه المباشر الحي لفرجة متنوعة مفعمة بالحركة والتجسيد والمرح، يجند حواسه، ويعبئ قدراته العقلية، ويطلق العنان لانفعالاته، ليجني في الأخير ثمار القيم اللذيذة المغروسة في طوايا العرض، واجتناء القيم بهذه الطريقة السلسة الجذابة التي تجمع بين الإمتاع والإفادة يكون مبعثاً على تقبلها والاقتناع بالعمل بها، لأن الطفل من عادته أن يضيق بالتوجيهات الجافة المتعالية، وينفر من النصائح المملة المستثقلة.

الشروط والضوابط المساعدة
    إن إيصال قيمة من القيم للطفل عبر مشاهدة عرض مسرحي، قد تبدو للبعض أمراً في منتهى اليسر، لتوهمهم بأن مخاطبة الطفل مسألة في غاية البساطة، بيد أنها عملية بالغة التعقيد، لذا فهي تتطلب مراعاة مجموعة من الضوابط والشروط، نذكر منها:
- التحديد الدقيق للقيمة التي يراد للطفل أن يتشبع بها، بحيث لا تكون غائمة ضبابية.
- الاحتراس من الوقوع في التناقض والالتباس، مما يكون باعثاً على التحير، ومفضياً إلى التضليل، إذ شتان بين السخرية والضحك، والشجاعة لا تعني الرعونة والتهور، والانفتاح على الثقافات لا يقصد به التخلي عن الهوية ونسيان الخصوصية الفردية.
- الاحتراس من تسرب بعض المشاهد المرتجلة أحياناً، التي قد تكون منافية لكريم الأخلاق.
- تجنب المجانية والحشو تفادياً لتشتيت انتباه الطفل، وصرفه عن إدراك القيمة المستهدفة.
- ترك المجال لاستخلاص القيمة من العرض وعدم السقوط في الوعظ المباشر القائم على صيغتي الأمر والنهي: افعل ولا تفعل.
- اختيار شخصيات جديرة بأن تكون قدوة صالحة، ومحركة للاستهواء الحسن.
- ربط القيمة براهن الطفل، وواقعه.
- تفادي الكشف الساذج عن القيمة؛ لإخراج الطفل من السلبية، وحفزه على إعمال قدراته، من تذكر، وتفكر، وتخيل، ومقارنة، ونقد، وحكم.

خلاصة
إن التربية على القيم مطلب ملح في المجتمعات المعاصرة، هذه المجتمعات التي تفاقمت فيها المشكلات، وتسارعت التحولات على جميع الأصعدة، وتنامت التحديات، وطغت قوى الهدم، وتراجعت منظومة القيم، وفي ظل هذا الوضع الخطير فإن المؤسسات المعنية بالموضوع مطالبة بتقييم تأثيرها، ومراجعة أساليبها، وتعزيز أدوارها وتجديدها، وإذا كنا قد أشرنا في صدارة هذه المقالة إلى قولة مارك توين الشهيرة التي تثمن مسرح الطفل، فإن هذا المسرح يبقى وسيطاً فعالاً في تعزيز الرصيد القيمي في مختلف مناحي الحياة، لذا ينبغي أن يتوسع حضوره كفاعل ناجع في حقل التنشئة والإدماج القيمي، وهذا يتطلب من جملة ما يتطلب، دعم المهرجانات والملتقيات المتعلقة بمسرح الطفل، وتنظيم المسابقات، والندوات الفكرية، والورشات التكوينية، والاستحضار في البرامج التعليمية، والبرامج الإعلامية.

ذو صلة