مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

رحلة حج الإسحاقي

كان مخطوط رحلة الإسحاقي من بين المخطوطات التي أثثت المعرض الذي يوثق قوة العلاقات المغربية السعودية، والذي أقامته مؤسسة أرشيف المغرب يوم 14 سبتمبر 2022، في مدينتي الرباط وإفران، بتعاون مع عدة مؤسسات أكاديمية مغربية وسعودية، احتفاء بالمشترك بين المغرب والسعودية وتاريخ العلاقات بينهما.
وفي المقالة الآتية، تعريف برحلة الإسحاقي، التي كان علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله من أوائل من أدركوا قيمتها، ونشرها في حلقات بمجلته العرب، عامي 1405 و1406.

الإسحاقي
محمد عبدالقادر بن محمد الشرقي الإسحاقي، العالم، المتبحر في علوم اللغة والفقه والحديث والسيرة النبوية والتاريخ، والكاتب البليغ. أهلته سعة علمه، ومهاراته الأدبية، لتولي مناصب الكتابة لدى السلطان المغربي المولى إسماعيل العلوي، والوزارة لدى ابنه المولى عبدالله. وكان من جملة من بعثهم السلطان المولى عبدالله ضمن وفد الحج عام 1143هـ.
دون الإسحاقي يوميات الرحلة الحجازية، في كتاب، وصف فيه مراحل ومنازل الحاج، منذ الخروج من فاس إلى الحجاز، ذهاباً وإياباً في الطريق التي اعتاد أن يمر منها الركب المغربي الفاسي.
الحاجة خناثة
تميز الركب بمشاركة أم السلطان السيدة خناثة بنت بكار، زوج السلطان إسماعيل العلوي، ووالدة السلطان عبدالله. فقيهة، عالمة، أديبة، دينة. وكان لها كلام ورأى وتدبير مع مولانا أمير المؤمنين رحمه الله ومشاورة في بعض أمور الرعية، وكانت له وزيرة صدق وبطانة خير، وتتوسط في حوائج الناس، ويقصد بابها أهل الحياء والحشمة، وذوو الحاجات. توفيت في فاس في جمادى الأولى عام 1159هـ.
رحلت إلى الحج مع حفيدها محمد بن عبدالله، وكان خروجها من دار الخلافة بمكناسة بعد صلاة الجمعة الحادية عشرة جمادى الثانية عام 1143هـ، وهي السنة الرابعة من إمارة ولدها السلطان مولاي عبدالله.
ركب الحج والرحلة
كان ضمن الوفد عدد من العلماء والوجهاء، كالقاضي أبي القاسم العميري، والتسولي مؤدب الأمير. مع شيخ الحجيج السيد الحاج عبدالقادر عديل. وعدد من العلماء والأعيان، والجند المكلفين بحراسة وحماية الركب.
أمّا عن خطّ سير الرحلة فكان من عادة الركب الخروج من فاس متوجهاً نحو مدينة تلمسان، ثم مدينة الجزائر، قبل الدخول إلى تونس عن طريق بونة، ويكون الملتقى مع حجاج تونس في مدينة قابس، قبل التوجه إلى طرابلس لملاقاة الحجاج الليبيين، ثم التوجه إلى القاهرة التي تكون نقطة الجمع بين حجاج شمال أفريقيا وشرقها إلى الحج عبر طريق الدرب المصري.
حج الأميرة
اعتنى الإسحاقي بتسجيل أخبار رحلة الحاجة خناثة، ومسارها، ولقاءاتها، وتكريماتها، وأدائها المناسك، حتى عودتها إلى بلدها.
وبعد رصد مراحل سفرها بشمال أفريقيا، تحدث عن وصولها إلى ينبع، ومنه واصلت السير إلى مكة، فذكر أنها أناخت بذي طوى وقت المغرب واغتسلت، ودخلت مكة عشاء، وذلك ليلة السابع من ذي الحجة الحرام، في محفل ملكي مهيب، وطافت طواف القدوم، وبعد أيام التشريق نفرت إلى مكة وأتت بعمرتها. وكانت مدة إقامتها بمكة تنزل كل يوم في جنح الظلام، وتطوف بالبيت الحرام.
وفي يوم النحر، فتحت أبواب الكعبة ليلاً، خصيصاً لها، لتدخلها، إكراماً وتقديراً لها.
وبعد قضاء ما كتب الله لها بمكة، انتقلت إلى المدينة المنورة، حيث استضافها ومرافقيها مفتي الشافعية، زين العابدين المنوفي. وبعد بلوغها الوطر من تلك البقاع، عادت إلى بلدها المغرب.
وكان من عادة الركب الرسمي أن يحمل (الصرة) وهي كيس النقود والهدايا التي يخصصها المغرب لأشراف الحجاز وأعيانه وعلمائه وفقرائه، وبلغ عدد ما زود به السلطان عبدالله بن إسماعيل والدته من الدراهم بقصد التوسعة على أهل الحرمين الشريفين مئة ألف دينار.
فكانت تنثر رجال العلم والأدب، وآثرت أشراف ينبع بعطايا فاخرة وهدايا سنية لم يعرفوها من ذي قبل، وكستهم بأنواع الثياب الرفيعة، علاوة على المبالغ النقدية الذهبية، كما أغدقت بخيراتها على سائر رجال الفضل بمكة المكرمة ليلة فتح البيت المبارك خصيصاً لها من لدن شريف مكة.
كما أوقفت الأميرة أوقافاً ذات بال منها دار اشترتها من أولاد العلامة أبي محمد عبدالله بن سالم البصري بباب العمرة، أحد أبواب المسجد الحرام، بما يقرب من ألف مثقال ذهب مطبوعة، وحبستها على طلبة يختمون كل يوم ختمة من القرآن، وعلى من يدرس صحيح أبي عبدالله البخاري وعينت ناظراً على الدار المذكورة.
الحفاوة والتكريم
اهتم الإسحاقي بإبراز جانب الحفاوة والاستقبال الذي صادفه الوفد الأميري في الطريق، والمراكز التي نزل بها:
في طرابلس
وكان الدخول على مدينة طرابلس عصر يوم الجمعة 29 شعبان، فهيأت أسرة القره مانلي الحاكمة، احتفالاً كبيراً، فبعث حاكم المدينة بابنه الأمير محمد، محفوفاً بكبار موظفي القصر، وعدد كبير من الجند والحرس، ليكون في استقبال الأمير المغربي، فاخترق الركب وسط المدينة التي ازدحمت بالمستقبلين لمشاهدة هذا الركب الرائع. وكانت المدافع الكبيرة تتبارى في تحية الركب بطلقاتها المتوالية على العادة المتبعة.
وأعدت منصة عظيمة لاستقبال الأمير المغربي، وفيها جرت (ألعاب الفروسية) التي اعتاد الفرسان الليبيون الشجعان القيام بها عندما يزورهم زائر كبير. وقد حركت هذه الألعاب الجنود المغاربة (البواخر) فأخذوا الجياد بدورهم، وأطلقوا العنان لها فبرزوا، وأتوا بالعجب العجاب، الأمر الذي أثار إعجاب الليبيين.
وقضى الركب الملكي ثمانية أيام في ضيافة الأسرة القره مانلية، تقام له عند الإفطار المآدب الفاخرة ومتعددة الأشكال والأنواع، وثماني ليال كان الناس يسهرون في الحديث والذكر تارة، والدرس والعبادة تارة أخرى. غادر الركب مدينة طرابلس زوال يوم السبت الثامن من رمضان المعظم 1143هـ (17 مارس 1730)، ليواصل السير نحو الحجاز، مرورا بمصر وفيافيها. حتى وصلوا إلى ذي طوى.
في الحجاز
وعند وصولها إلى ينبع، قدم الشرفاء أهل ينبع على الأميرة خناثة، لأداء مراسم التهنئة والتحية بسلامة القدوم، فأكرمت وفادتهم وأحسنت إليهم كعادتها المألوفة، وبالأخص مع الأشراف آل البيت المصطفى، وأهدت لهم كساوى من أرفع طرز، وأدت لهم مئتي مثقال ذهباً مطبوعة، كانت توجه لهم أيام زوجها السلطان الأعظم مولانا إسماعيل، ومئة مثقال ذهب، منحة من عندها، شطرها للشرفاء والشطر الآخر للشريفات. وقد أثار صنيعها شاعرية إمام المقام الإبراهيمي الشيخ أبي عبدالله محمد بن على الحسيني الشافعي الطبري إمام المقام الخليلي فنظم رائية طويلة يسدي فيها بعض الجميل لما شاهده.
وفي مكة، أقام مفتي الشافعية بالحرمين، الشيخ زين العابدين بن سعيد المنوفي، حفلاً كبيراً على شرف الوفد المغربي، ولما قرر الوفد المغربي زيارة المدينة المنورة، كتب الشيخ المنوفي لولده بالمدينة، يأمره باستضافة الوفد المغربي، وإكرامه، والعناية به، وإنزاله بمسكنه بالمدينة، ولما أراد الإسحاقي مكافأة ابن المنوفي، رفض قبول المكافأة، معرباً عن سروره بالشرف الذي حظي به، لقبول المغاربة الإقامة عنده.
الأحوال في مكة
تضمن الكتاب وصفاً للحرم المكي الشريف وآثار مكة المكرمة الحدودية وأبواب مكة، ومواقع الإحرام المكانية، ثم وصف المسجد الحرام، والمساجد الأخرى، ووصف الكعبة المشرفة، وأئمة الحرم والمنابر، وغير ذلك مما يضيق المجال بسرده.
وذكر الإسحاقي أن العادة جرت بأن يقف الركب المصري بالمحمل الذي يحمل كسوة البيت العتيق بعرفات، على نحو ما يقف الركب الشامي بالمحمل الذي يحمل كسوة الحجرة النبوية بعرفات أيضاً، يقفان متسامتين، وينفر الوفدان معاً نفرة واحدة. ويقف شريف مكة بإزاء المحملين، وأحياناً يقع التنافر والتنافس بين أميري الركبين الشامي والمصري، لكن شريف مكة كان له دور في الفصل بين الأميرين، حتى يحول دون أي خصام يهدد سلامة وأمن الحجاج.
الكسوة الشريفة
وفي يوم النحر، سيقت كسوة الكعبة الشريفة المقدسة من محلة الأمير المصري محمد باي إلى مكة، يتقدمها أهل الوجاهة، والشيبي صاحب المفتاح المبارك، والطبول تضرب من ورائها وأمامها، والرايات منشورة حذاءها، حتى وصلت إلى المحل الرفيع، فتولى أمرها السادة الشيبيون ومساعدوهم، فعلقوها، وشدوها بأمراس في غاية ما يكون من الفتل والإحكام، فإذا البيت المبارك يؤول بزينة ما رأى الراؤون مثلها حسناً وجمالاً وبهاء. وكانت الكسوة من الحرير الأسود، فيها آيات من كتاب الله بعد البسملة: (إن أول بيت وضع للناس) الآية، وعبارات الدعاء للسلطان العثماني.
وأخذ الكسوة القديمة الشريف عبدالله لنفسه، له في ذلك عادة معروفة، تارة يأخذها، وتارة يأخذها أمير الحاج المصري، وكملت عملية كسوة الكعبة المباركة، وشمرت أذيالها الكريمة صوناً لها من أيدي الناس، وشدة اجتذابهم لها، وقوة تهافتهم عليها وإكبابهم، فكأنها عروس جليت في أشرف ملابس وأحسن زينة، لا يمل أحد من النظر إليها، تستوقف الأبصار، وتعقل العجلان، وتذهل الأفكار.
وفي يوم النحر، فتح الباب المبارك للبيت العتيق، فدخله أمير الحاج المصري محمد باي ومن معه من حاشيته، وممن قدر له ذلك من غيرهم، ممن صبر على الازدحام على الباب المبارك، أمر لم ير أهول منه، يؤدي إلى تلف المهج، وكسر الأعضاء.
يوم عرفة، اتقد المشعر الحرام بمشاعل من الشمع المسرج والثريات التي نصبها أتراك مصر، أما المسجد فعاد كله نوراً. وعلى هذه الصفة كان جبل الرحمة ومسجده، والحرم، مدة مقامهم فيه، وكثيراً ما يقصدون حطيم الإمام الحنفي لأنهم على مذهبه. وهذه عادتهم في باقي الأماكن المكرمة مثل بدر والحرم النبوي وغيرهما.
الأسواق
وخلال الحديث عن فضائل مكة، وما خصها الله به من الخيرات والبركات، لم يغفل عن ذكر أسواق بدر، ومكة، وما تزخر به من بضائع وطيوب وعقاقير وثياب وأوانٍ، وفواكه ومأكولات شهية أخرى، ويذكر السوق التي كانت بين الصفا والمروة، والتي كانت تمتلئ بالمتسوقين، حتى أثناء السعي.
وخص حلوانيي الطائف بحديث عن مهاراتهم في تشكيل حلوياتهم على شاكلة الفواكه الحقيقية الرطبة واليابسة، يعرضونها على أسمطة بين الصفا والمروة، لم يشاهد مثلها في بلد آخر.
أما الفواكه، فيلفت النظر إلى أنها تجلب من الطائف، من مزارع في (الهدا) يشتغل بها فلاحون مغاربة مهرة بالزراعة، فأقاموا فيها بساتين لمختلف الفواكه والخضروات.
تكلم الإسحاقي عن الحياة العلمية بمكة، من خلال الحوارات والمحادثات التي تمت بينه وبين عدد من العلماء التقاهم هناك، فنوَّه ببعض علماء الحجاز ممن تذاكر معهم وأخذ عنهم.
ويذكر الإسحاقي أنه لما التقى الشيخ الإسكندراني الضرير في منزله، قرب باب العمرة، حدثه عن تصانيفه، وبالخصوص عن تفسيره للقرآن الكريم في أرجوزة من أزيد من ثلاثة آلاف، وكان يتمنى أن يصل الكتاب إلى سلطان المغرب، وكلف الإسحاقي بتحقيق أمنيته بحمل كتابه للسلطان. ما يؤكد أن الرحلات الحجية كانت من الطرق التي دخلت بها الكتب الثمينة إلى المغرب.
الصعوبات
أشدّ ما اشتكى منه الرحالة كان حرّ الطقس، والعطش، وصعوبات الحصول على الماء. كما كان حجاج البر يلقون المخاطر من العربان، الذين كانوا يعتدون على القوافل أحياناً بالسلب والنهب، ويحكي الإسحاقي أنه بعد خروجهم من طرابلس ببعض أراضي ليبيا، لما وصل الركب إلى المكان المعروف بالزعفراني، غارت فرقة من العرب المعروفين بأولاد زيان على خيلهم، واستولوا على تسعة عشر من الإبل الحاملين المركب، ولكنه ذكر أن رئيس الركب مع بعض التجار أخذوا أسلحتهم، وتوجهوا إلى دوار شيخ أولئك الذين غاروا، فما هو إلا يوم واحد حتى رجع الرئيس بأربعة عشر من الإبل المغتصبة، وترك بعض أعوانه ليعودوا بالخمسة الباقية.
الخاتمة
تقف هذه الرحلة، وكثير من الرحلات المغربية الحجازية، دليلاً على قوة ومتانة وأصالة وعراقة العلاقات المغربية السعودية، وتجذرها في التاريخ، وروابط القرابة الدموية بين كثير من الأسر في البلدين، وعلى التعددية الثقافية والفكرية التي تنعم بها السعودية، والتسامح الذي يتحلى به مواطنو هذا البلد الأمين، وبه يشهد كل الرحالة الذين قصدوه من المشرق أو المغرب.

ذو صلة