مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

مقهى الأشباح

هناك من يكلم نفسه، كي يقنعها، بأنّه لا يعيش وحيداً. وهناك من يربّي قطّة كي تؤنسه، مرجعاً الشعور بالإيناس لغوياً إلى الإنسان، حتى لو كان سببه حيوان أليف. وهناك من لا يجد أحداً في وحدته، كالعجوز التي ألفت عزلتها، فالإنسان في الأصل يأتي إلى هذه الحياة وحيداً ويخرج منها وحيداً، فلماذا التذمّر، تقول لنفسها، وهي التي لم يحالفها الحظّ بأن يكون لها توأم يشاطرها الولادة ولربما الموت، أمّا عائلتها التي أفنت أجمل سنوات حياتها من أجلها، فقد شظّتها الأقدار المحتومة. كانت العجوز أحياناً تستغرب ألفتها مع الوحدة التي آلت إليها حياتها، ولم يكن يبدّد هذه الغرابة أي تعليل خطر على ذهنها إلى أن اختمرت في قلبها فكرة، بأنّ الأشباح يظلّون معلّقين بين الحياة والموت، لأنّ أسبابهم لم تنقطع بعد من الحياة، فلا يطويهم الموت بين صفحاته حتى يستنفدوا أسباب تعلّقهم.
هذا التفسير الذي توصلت إليه العجوز، كان قد سُبق بعدّة حوادث مبهمة جرت معها، كأن لا تجد أدويتها، أو أدوات المطبخ في أمكنتها المعتادة. وعندما حاولت تعليل اختفاء تلك الأشياء، لم تعزها إلى كثرة النسيان الذي تعاني منه، بل أصابتها حالة من الغبطة حين حدست، بأنّ شبحاً ما قرّر أن يزورها. اندمجت العجوز سريعاً مع ضيفها، مزيلة تحفّظاتها العديدة نحو الغرباء بحيث سمحت له أن يمارس معها لعبة التخويف المحبّبة للأشباح، فأصبحت تصرخ بهلع عندما لا تجد نظارتها على أنفها، بل في إحدى المرطبانات، أو تصيبها الدهشة حتى الإغماء من ضياع فكّها، لتلقاه بين صور عائلتها على أحد الرفوف. وعندما تسري قشعريرة عبر فقرات ظهرها في ظلمة الليل تهمس للشبح: تصبح على خير، لقد حان وقت الأحلام.
في إحدى الأمسيات وبعد نقاش مطوّل مع الشبح، أقنعها بأن تعود إلى عملها القديم كنادلة، محوّلة بيتها الصغير إلى مقهى للأشباح، وهو سيتكفّل بإذاعة الخبر بين أشباح المدينة. تدفّق الأشباح سريعاً إلى مقهى العجوز، فأمست تقضي معظم ليلها تعدّ لهم المشروبات، وتستمع إلى أحاديثهم وشكاويهم، وتحلّ الخلافات الناشبة بينهم، فهم بشر أولاً وأخيراً. سُرّت العجوز بعائلتها الجديدة من الأشباح، هؤلاء الأغراب الذين لا تربطهم بها صلة رحم أو قرابة، وحزنت لأجلهم عندما تأكّدت فكرتها، بأنّهم قد كانوا أناساً وحيدين في حياتهم مثلها، لكنّهم مازالوا يأملون بلقاء شخص يهتم لأمرهم قبل أن يطويهم الموت، وهذا هو السبب في حالتهم البرزخية بين الحياة والموت، وهنا ساءلت العجوز نفسها، هل هي شبح؟ هذا التساؤل أوضح لها، لماذا كان العديد من الأشباح يختفون نهائيّاً وبشكل مفاجئ بعد عدّة أشهر من ارتيادهم المقهى، مخلّفين وراءهم أنفاساً تكاثفت كالضباب على زجاج النوافذ، فهي آخر آثارهم على هذه الأرض، بعدما وجدوا هذا الشخص، الذي حرّرهم من حالة وسطى بين الحياة والموت، والتي لم تكن يوماً فضيلة أبداً.
كانت العجوز ما إن تنتهي ليلتها الصاخبة في خدمة الأشباح حتى تغرق في النوم متعبة، لكنّها سعيدة ومطمئنة على مستقبل عملها، فكلّ ليلة يأتي شبح جديد محتاجاً إلى آخر، وعطشاً للمشروبات وللثرثرة معها. وفي الصباح عندما تجد زجاج النوافذ قد أغبشته الأنفاس، تدرك أنّ أحد الأشباح قد حرّره السهر في مقهاها. رضيت العجوز، بكلّ طيبة وحبّ أن تكون هذا الآخر، لكلّ شبح قدم إلى مقهاها، وتناست بأنّها هي الأخرى وحيدة وستحتاج إلى آخر عمّا قريب. في إحدى الليالي كانت العجوز مريضة جداً، وقد تحلّق عدد من الأشباح من حولها، فاعتذرت منهم عن عدم قدرتها على خدمتهم، وقالت لهم، بأن يتصرّفوا على راحتهم، فهم من أهل البيت. مضى الليل صامتاً على المقهى، وفي الصباح كانت جميع نوافذ البيت قد غشيتها أنفاس الأشباح، ورويداً رويداً، بدّدت الشمس آخر العلامات التي تشي بأنّ أشباحاً قد أمضوا سهرتهم الأخيرة على هذه الأرض في مقهى العجوز. ظلّت النظارة التي نسيتها العجوز في البراد، تنتظر عينيها الدافئتين مع أنّ الشمس قد توسّطت قبة السماء. لقد ماتت العجوز، لكنّها لم تتحوّل إلى شبح على الرغم من الوحدة التي عاشتها في آخر أيام حياتها، فقد حملتها معها عائلتها الجديدة من الأشباح إلى السماء.

ذو صلة