مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

الحنين

في ذات نهارٍ شتوي، أخذني الشوق لزيارة قريتي ومنزلي القديم فيها، تلك القرية والمنزل اللذان احتضنا بعض ذكرياتي الجميلة أيام الطفولة، لم أتردد -كعادتي- هذه المرة، ولم أفكر في صحبة أحد، حتى هاتفي الذي أعُده أقرب الرفقاء وألصقهم بي، انسللت خلسة منه! أردتُّ اللقاء بذكرياتي وجهاً لوجه، كما كنتُ وكانتْ، بعيداً عن ضجيج المدينة، وشواغل التكنولوجيا الحديثة!
في طريقي إليها، كان شريط الماضي يسير بي، عبر مشاهد وأحداث وأشخاص وأماكن شهدوا جميعاً تلك السنوات، وكانوا جزءا من رسومها المتداخلة في اللاوعي من الذاكرة، الطريق المُمتد بين المنزل والمدرسة، وجوانبه المسوّرة بأغصان شجر السدر بعد قطعها، جرّة الماء الموضوعة من قبل إحدى عجائز القرية كسبيل يشرب منه الناس تحت شجرة الكافور منتصف الطريق المتفرع إلى السوق والمدرسة، بقايا منزلٍ مُتهدِّمٍ على تلة مرتفعة عن القرية، وحكايا غامضة توارثتها الأجيال عن ساكنيه! أصدقاء الطفولة ومشاكساتهم: ماجد، رياض، معاذ، راعي الأغنام الحاج عبداللطيف صاحب الوجه البشوش والنكتة الحاضرة، الذي كان كلما التقى بنا أثناء عودتنا من المدرسة، تمنّى لو عاد به الزمن ليكون طالباً في المدرسة التي بُنيت بعد أن فارق العقد الرابع من عُمره.
أووه، كل شيءٍ كان يبدو محتفظاً بشكله وجماله كما هو في الواقع، وكما هو في ذاكرتي المفعمة بالحنين إلى ذلك الزمن الجميل، برغم ما مر عليه وعليّ من السنين.
ودون شعورٍ بالوقت والطريق وجدتُني في المكان المقصود، والمنزل المعهود، أستعينه على استعادة الماضي، وأبتسم للذكريات فيه! تجوّلت في أروقة البناء القديم المتهالك، علوت سطحه الطيني، وأخذت نفساً عميقاً، وأغمضت عينيَّ مستدعياً ما كان شاهداً على تفاصيل أيامنا فيه، ومستحضراً عشرات الأسئلة التي لا إجابة مقنعة لها!
يا إلهي...
كم نزل بهذا المكان من الساكنين قبلنا؟
وأي فرحة تلك التي غمرتنا حين غادرناه أطفالاً مع الوالدين؟
وما لهذا الحنين الذي يشدنا للعودة إليه شدَّاً؟
ولمحت في الجهة المقابلة للمنزل حكيم القرية كما كان ينادى، لكنه لم يعد كعهدنا به حين فارقناه وارتحلنا عنه، فقد أتت عليه السنين وأصبح طاعناً في السن! يسكن مع زوجته منفردين -بعد أن غادر أولاده مع من غادر من القرية- إلا من شويهات يقومان برعايتها، ويقمن بتزويدهما باللبن، ومكتبة قديمة عامرة بأمهات المراجع في زاوية المنزل، وكلب حراسة في الحوش من طوارق الليل.
هرولت نحوه حين رأيته، صافحته، وجلست بجانبه وقلت له:
_ كيف حالك يا عمي؟
_ قال: نحمد الله، كيف وجدتم العيش في المدينة؟
_ لم تكن كما نتوقع! ولولا أعمالنا فيها لعدنا لهذا المكان المليء بكم وبالحب والجمال.
_ لستَ وحدك يا بُني من يقول هذا، وأردف مبتسماً ولم يعد هذا الكلام غريباً علينا، والإنسان مجبول على الحنين إلى ماضيه حين يغادره، وإذا كان فيه تمنى مغادرته، يا لعجب الدنيا والناس! لكنها سنة الحياة يا ولدي، أتعرف عبدالحكيم جد رامي صاحبك، ذاك لم يكتفِ بالخروج من قريتنا إلى المدينة وحسب، وإنما سافر إلى أوروبا، وعاش هناك، ولكنه أخبرني في آخر لقاء بيني وبينه عندما عاد قبل الحرب أنه يُغالب الشوق مغالبة إلى هذا الوادي، وإلى أصوات الرعد وهي تدوي في الجبل قبل نزول الغيث، وإلى رائحة قهوة البُن في (مقهاية) الحاج غالب أمام المدرسة، وإلى أصوات الباعة في سوق الأربعاء!
_ آه، يا عمي، لعلها الذكريات والحنين لما فات، كما قال يوسف زيدان عنها: «أي ذكرى مؤلمة بالضرورة، حتى لو كانت ذكريات اللحظات الهانئة، فتلك أيضاً مؤلمةٌ لفواتها».
_ داهمني الوقت ولم أنته من الحديث الشجي معه، فودعته على أمل لقاء قادم، واتخذت طريق العودة إلى المدينة ملقياً نظرات مبعثرة في المكان، كأني محترف تصوير أراد أخذ لقطة جامعة لكل مكونات القرية! وما هي إلا نظرات وداع لشواهد أعمارٍ وسنين وأفراح وأحزان ورجال ونساء سكنوا تلك القرى، ومرّوا على جبالها ووديانها، وعانقوا أشجارها، وغنوا مع بلابلها وأطيارها!
ولا أدري كيف قفز إلى رأسي وأنا في آخر ربوة تطل على المكان قول الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
مـــــا الحـــــــــبّ إلا للـحبيـــــــــب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
وحـنينــــــــه أبـــــــــــــداً لأوّل منــــــزلِ

ذو صلة