مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

هل تنجح آسيا في تشكيل عالم متعدد الأقطاب؟

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تحول العالم إلى نظام دولي أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وتطلعت لتحقيق الهيمنة وإعادة هندسة البناء الدولي، وفي المقابل هناك أقطاب أخرى صاعدة تعارضها وتسعى إلى تحقيق التوازن الدولي، لمنع الولايات المتحدة من إرساء نظامها القائم على الهيمنة الأمريكية على مجريات السياسة والاقتصاد والأمن في البيئة العالمية.

وفي خضم هذه التجاذبات والتحولات، برزت آسيا في الصعود اقتصادياً وسياسياً، عبر أقطاب متعددة على رأسها الصين والهند والكتلة الخليجية كقوى صاعدة، يحاول المقال تقديم قراءة تحليلية للسؤال الرئيس التالي: هل تنجح آسيا في تشكيل عالم متعدد الأقطاب اقتصادياً وسياسياً وأمنياً عبر قاطرتها العملاقة التنين الصيني؟
تتمتع قارة آسيا بالعديد من مقومات القوة الجيوستراتيجية والمزايا الجيوبوليتيكة تمكنها من تشكيل عالم متعدد الأقطاب ويسوده التعاون والسلام، إن برع مفكريها في التخطيط الإستراتيجي السليم وعمل قادتها في التدبير والتنفيذ لتلك الخطط الإستراتيجية، انطلاقاً من نماذجها الحضارية القائمة على السلم والتعاون والشراكات الإستراتيجية.
تعد قارة آسيا من أكبر قارات العالم، وتسكن فيها أكثر من نصف سكان العالم، وفي طريقها إلى إنتاج أكثر من 50 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2040م، والاستحواذ على حصة تقدر بنحو 40 % من الاستهلاك العالمي، وبحسب التقديرات فإن آسيا حالياً تساهم بثلث التجارة العالمية. واستناداً إلى دراسات أكاديمية، فبحلول عام 2050م ستستعيد آسيا المكانة الاقتصادية المهيمنة التي حازتها منذ ثلاثة قرون، حيث استحوذت القارة على نحو 60 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قبل قيام الثورة الصناعية أواخر القرن الثامن عشر، ولو قدر لآسيا إعادة احتلال قلب المشهد العالمي، فسيكون العالم قد أتم دورة كاملة.
وفي سياق الصعود الآسيوي، نجد عدة تحولات جعلت الصين محط أنظار العالم لأن تقود الأقطاب الآسيوية الصاعدة في منافسة ومواجهة الأحادية الأمريكية، فعلى الصعيد الاقتصادي هنالك ثمة تغيرات تعتري الاقتصاد العالمي لينهي تفرد أمريكا بقيادته، فبعد الأزمة المالية العالمية عام 2008م، طالبت الصين بتغيير قواعد النظام الاقتصادي العالمي، فيما يتعلق بسيادة الدولار على الإجراءات المالية والتجارة الدولية، وهي خطوة تستهدف فك احتكار الدولار للاقتصاد العالمي، واتخذت خطوة كبيرة بإنشاء بنك (البنية الأساسية)، ويأتي ضمن إستراتيجية الصين لأن تكون عملاقاً اقتصادياً وقوة عظمى، كما أن اعتماد عملتها (اليوان) من صندوق النقد الدولي ضمن مكوناتها في السحب في سبتمبر 2016م، كل هذه التحولات وغيرها مكَّنت بكين من أن تكون فاعلاً رئيساً في النظام النقدي العالمي. وتعد الأزمة المالية العالمية التي تفجرت في داخل الأسواق الأمريكية وألقت بظلال سالبة على الأسواق العالمية، محطة بارزة في مسيرة الاقتصاد الدولي، من حيث إعادة توزيع القوة المؤثرة، والتي استغلتها الصين والعديد من الدول للمطالبة بتغيير قواعد النظام المالي والاقتصادي العالمي، ليكون متعدد الأقطاب.
ويعد مبدأ (نسق دولي متعدد القطبية) مبدأً رئيساً في السياسة الخارجية الصينية، وتشكل التعددية القطبية من وجهة النظر الصينية، أساساً مهماً لتحقيق سلام دائم في العالم، وبناء نسق عالمي عادل، في إطار التعاون والثقة المتبادلة والمساواة والحوار. وتبدو الصين مشغولة بقيام تعايش سلمي وتعاون بعيداً عن الهيمنة، وتؤكد على الصعود السلمي، ولا تميل إلى الدخول في تحالفات وتكوين جبهات معادية لتهديد الأمن والسلم الدوليين.
ملامح التعددية القطبية
مع نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن الحالي، باتت ملامح التعددية القطبية في الظهور، ولاسيما عقب بروز قوى دولية متعددة المراكز والمحاور كفيلة بحفظ التوازن الدولي في البيئة العالمية، ذلك مع التراجع الواضح للقطب الأمريكي على المسرح الدولي، والمأزق الروسي في الأزمة الأوكرانية، والاتحاد الأوروبي وأزماته الاقتصادية والطاقوية.
وهنالك العديد من الدراسات التي أشارت إلى تفوق الصين على الولايات المتحدة الأمريكية خلال النصف الأول من القرن الحالي، منها دراسة بنك جولدمان ساكس، فقد توقعت بالتفوق الصيني خلال 2040م، في حين توقعت دراسة وليام بيوتر من (سيتي بنك) الأمر ذاته ولكن في عام 2027م. ويذهب المفكر وأستاذ التاريخ في جامعة هارفارد (نيل فيرجسون) إلى القول: (إن الصين حققت نجاحاً مذهلاً، وهي أسرع وأكبر ثورة صناعية، وإنها خلال وقت قريب جداً ستكون أكبر اقتصاد في العالم وتتجاوز الولايات المتحدة التي تحتكر المرتبة الأولى كأكبر اقتصاد في العالم منذ عام 1872م.
ويقول أستاذ التاريخ الشهير في جامعة ييل (بول كينيدي)، حول ما إذا كان صعود الصين يعني سقوط أمريكا: (بالتأكيد على أن التغييرات في السياسة العالمية، والقوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، تشير إلى أنه قد أصبح للولايات المتحدة منافس جديد على السيادة، وهي الصين. ويبدو المشهد العالمي الحالي أكثر تنوعاً، في ظل وجود العديد من الدول الكبيرة على القمة (الصين وأمريكا والهند وروسيا)، يليها الاتحاد الأوروبي واليابان. وهذا يمثل إعادة توزيع شديدة الأهمية للقوة العالمية.
وتسعى الصين إلى تربع عرش التجارة العالمية متخذة عدة سياسات براغماتية وواقعية ناجحة، وتؤكد ذلك دراسات متخصصة، منها دراسة أعدتها مدرسة لندن للاقتصاد وتقول: (إن الصين أكبر دولة مصدرة للسلع في العالم)، وتعكف على تأسيس كتلة جديدة في التنمية الاقتصادية العالمية. عبر ابتدار وتمويل مشروعات عملاقة في البنية التحتية أطلقت عليها (مبادرة الحزام والطريق)، تهدف إلى ربط نصف سكان العالم من خلال تأسيس ارتباطات تجارية واستثمارية تمتد إلى كل أركان الكرة الأرضية.
وفي دراسة لمؤسسة (بروغنوز) السويسرية للبحوث والاستشارات، يُقرع ناقوس الخطر من المد الاقتصادي الصيني الذي ينذر بفقدان الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم بحلول 2040م، وإعادة تقسيم العالم اقتصادياً بين كتلتين واحدة بزعامة الولايات المتحدة والأخرى بزعامة الصين، ومن المؤشرات على ذلك استفراد الاقتصاد الصيني بالاستمرار في النمو بنسبة زادت على 2 % في عام 2020م على الرغم من جائحة كورونا في وقت شهدت اقتصاديات الدول الصناعية الأخرى تراجعاً بنسبة 3 - 7 %.
وفي هذا الصدد أصدرت شركة Pwcالبريطانية المتخصصة في الأبحاث والدراسات الاقتصادية، في التحديث الرابع لتقريرها )العالم في 2050م)، والذي يعد أهم التقارير وأكثرها شمولاً فيما يتعلق بالتنبؤات الاقتصادية، وتوقع التقرير أن تتحول القوة الاقتصادية العالمية بعيداً عن الاقتصادات المتقدمة في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان، لصالح الاقتصادات الصاعدة أبرزها الصين والهند وإندونيسيا، وبحلول 2050م تصبح كل من (الصين، الهند، والولايات المتحدة) هي الدول الثلاث الأكبر اقتصادياً على مستوى العالم، حيث ستفقد الولايات المتحدة المركز الأول لتتراجع لصالح القطبين الآسيويين إلى المركز الثالث.
وتشير العديد من التقارير المتخصصة والدراسات المستقبلية إلى أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية العقد الحالي، وأن الهند لديها الميزات والقدرة على أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم عام 2050م، وإندونيسيا ستصبح رابع اقتصاد عالمي، هذه التحولات فعلاً ستجعل القرن الحالي قرناً آسيوياً في الاقتصاد، وطالما أصبح الاقتصاد يقود السياسة والتسليح والتمدد الجيوسياسي فإن العالم في منتصف القرن الحالي سيصبح في زعامته القوى الآسيوية.
تدرك الصين أن رحلة صعودها الاقتصادي ومنافسة أمريكا، لا يمكن أن تتحقق إلا بروافع أخرى، أهمها النفوذ الجيوسياسي لدعم هذا الصعود، وهذا يتطلب تأمين احتياجاتها من الطاقة، لذلك تسعى لكسب دول الاحتياطات الطاقوية والممرات المائية لتأمين أمنها الطاقوي.

ذو صلة